كلمة صالون مأخوذة من الفرنسية Salon، وفي اللغة العربية “صالة”، أما عبارة “صالون أدبي” فتكاد تكون عبارة غير معمول بها كثيرا في العقدين الأخيرين بسبب سطوة التكنولوجيا ومستجدات معاصرة إضافية.
ويرى البعض أن السبب ليس بالضرورة ضعف الثقافة، ولا الابتعاد عن منابعها. السبب أن الصالونات الأدبية لم تعد موجدة، إلا في أطر محدودة ، لا يكاد أحد يشعر بها، مع أنها كانت في زمان ليس بالبعيد، ملئ السمع والبصر، وحديث المجتمع، والصحف، وعلية القوم.
في الصالون الأدبي، يلتقي أدباء وشعراء ومفكرون ومثقفون وفنانون وكتاب ورجال دين، في موعد أسبوعي أو نصف شهري، أو شهري، لتدارس القضايا الأدبية، والفنية والسياسية والاجتماعية التي تهم المجتمع ونخبه الثقافية والسياسية، ولعرض الحاضرين لإنتاجهم الأدبي والفني والعلمي.
ويسمى الصالون باسم الداعي، أو صاحب المنزل، أو المجلس، وهو في العادة رجل أو امرأة، ممن يجمعون الثقافة والعلم والأدب، إلى الغنى والوجاهة والنسب.
والصالونات هي على الأقل بيوت جميلة، واسعة، مريحة الأثاث، في حي نظيف، وقد تكون قصوراً كبيرة فخمة، أو قصوراً ملكية أو أميرية.
يقول الكاتب فادي أوطه باشي لجريدة “الناس نيوز” الأسترالية : “لابد من أن يكون صاحب الصالون الأدبي شخصية ذات ثقافة واسعة، وعلاقات واسعة في الأوساط الثقافية والاجتماعية، لها حضور في الواقع الثقافي أو الأدبي أو الاجتماعي، متمكنة من إدارة الحوار، وحسن التعامل مع اختلاف الآراء ومنع الانسياق وراء الجدل العقيم.
أما رواد وضيوف الصالون فيكونون من أصحاب المواهب، أو محبي الثقافة أو ذوي المكانة الاجتماعية والتأثير في المجتمع ، أو يعملون في الشأن العام كما يقال “.
ظاهرة الصالون الأدبي في الشرق العربي قديمة، فسوق عكاظ قبل أكثر من 1500 سنة كان صالوناً أدبياً سنوياً مفتوحاً لكل الناس، ومجلس سكينة بنت الحسين بن علي قبل 1400 عام في المدينة المنورة كان يشبه صالوناً أدبيا للشعر، ومجالس الخلفاء والأمراء كانت صالونات أدبية، أشهرها مجلس ولادة بنت الخليفة المستكفي في الأندلس قبل 1000 عام، ومجالس الأصمعي وهارون الرشيد والمأمون.. لكن الظاهرة بشكلها الحديث انتشرت في القرنين التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، في كبريات مدن مصر والشام والعراق، ورافقت الصراع والحراك السياسي والفكري العميق الذي كانت تشهده المنطقة في ذلك الوقت، أشهرها صالون العقاد (عباس محمود العقاد) ومي زيادة، في مصر.
يقول الباحث عمرو الملاح لجريدة “الناس نيوز” الأسترالية : “يمكن تلمس البدايات الأولى لنشوء تجربة الصالونات الأدبية في بلاد الشام منذ أواخر القرن التاسع عشر، الذي يوصف بقرن التحولات الكونية الكبرى، وكان ملمحه الأبرز ما شهدته منطقتنا من تغييرات عميقة طالت كافة مجالات الحياة وواكبت الحداثة الوافدة من الغرب الأوروبي.
ولئن كانت الأديبة الفلسطينية مي زيادة (1886-1941) صاحية أشهر صالون أدبي عرفه العالم العربي ودام 20 عاماً متواصلة، إلا أنه كان للأديبة الحلبية مريانا مراش (1848ـ1919) فضل السبق والريادة على نحو يمكننا معه وصفها بأنها صاحبة أول صالون أدبي عربي في نهايات القرن التاسع عشر. تلاها الوجيه الحلبي صالح آغا الكيخيا (1852-1916) الذي كان منزله مجمعاُ للعلماء والأدباء”.
إذاً، البداية في العالم العربي كانت في سوريا، والبداية في سوريا كانت مع السيدة مريانا مراش، ومن مدينة حلب ( شمال سوريا) التي كانت إحدى كبريات الحواضر ذات الطابع الكوزموبوليتاني (مدينة منفتحة على العالم) في الإمبراطورية العثمانية، تعج بالكتب والمكتبات، وبنخبة من أعلام الفكر من أمثال جبرائيل الدلال، وحسني باقي زادة، وعبد الرحمن الكواكبي، وكامل الغزي، وغيرهم.
وازدهرت “الصالونات الأدبية” في سوريا واكتسبت زخماً أكبر في الحقبة ما بعد العثمانية، أي العهد الفيصلي ثم الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى فجر عهد دولة الاستقلال، وهي حقبة شهدت فيها البلاد تحولات عميقة اجتماعية واقتصادية، وفكرية تمثلت في انتشار الصحف، والمسارح، ودور السينما، ما ساهم في نشوء مجال عام استقطب أبناء “الطبقة الوسطى” التي كانت الحامل الاجتماعي التاريخي لمشروع الحداثة والتغيير في الدولة السورية الوليدة.
وعن سبب ريادة النساء في ظاهرة الصالونات الأدبية يشير الباحث عمرو الملاح لـ “الناس نيوز”: “الزخم الذي اكتسبته تجربة الصالونات الأدبية لا يمكن عزله عن الحركة النسائية النشطة التي شهدتها سوريا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتجلت في ظهور الجمعيات النسائية التي ركزت في البداية على قضايا تعليم المرأة وخروجها إلى العمل، ثم تطور خطابها في مرحلة ما بعد الاستقلال ليتمحور حول منح المرأة السورية الحقوق السياسية، والذي توج بمنح المرأة حق الانتخاب في دستور 1950ومن ثم ترشح ثلاث سيدات في الانتخابات النيابية للعام 1953”.
أهم الصالونات الأدبية التي أثرت في الحركة الأدبية والثقافية في سوريا في تلك الحقبة وجرى تأسيسها على أيدي سيدات سوريات، صالون ماري عجمي (1888-1965) صاحبة أول مجلة نسائية في سوريا وهي “العروس”، التي استضافت في منزلها بدمشق وجوها أدبية بارزة من أمثال خليل مردم بيك، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وفخري البارودي، وحبيب كحالة، وشفيق جبري، وغيرهم.
وأسست السيدة زهراء اليوسف عقيلة محمد علي بك العابد، أول رئيس للجمهورية السورية، صالوناً في منزلها في دمشق في نهاية الثلاثينيات.
وأقامت الأديبة والمربية السيدة ثريا الحافظ (1911-2000)، التي اضطلعت بدور محوري في قيادة الحركة النسائية السورية في الخمسينيات وكانت إحدى السيدات الثلاث اللواتي ترشحن لانتخابات العام 1953، صالوناً أدبياً أطلقت عليه اسم “سكينة بنت الحسين” تخليداً لذكرى سكينة بنت الحسين حفيدة نبي الإسلام ( صلعم ) ، واستضافت في صالونها أسماء مهمة في الأدب النسائي العربي، مثل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، والشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.
ومع الطفرة النفطية، وصلت الصالونات إلى دول الخليج، وأخذت شكلاً ذكورياً، واستعراضياً، يدور خاصة حول إلقاء الشعر، وتكريم الأثرياء والأمراء للشعراء والاحتفاء بهم.
السيد مجاهد الأميري يقول لجريدة “الناس نيوز”: “في عدة بلدان ومنها السعودية يوجد عدة صالونات معروفة منها صالون الشيخ عبد العزيز الرفاعي الأدبي، وصالون الشيخ عبد المقصود خوجة الثري المهتم بالأدب والفن والفكر وتكريم وتقديم الهدايا للشخصيات الأدبية، وخاصة الشعراء، في كل العالم الإسلامي، وصالون الدكتور راشد المبارك في الرياض، المسمى ندوة المبارك”.
وتراجعت ظاهرة الصالونات الأدبية في مصر وسوريا والعراق مع الحكم العسكري، وضيق أو انعدام هامش الحريات، ورحيل جيل العمالقة في الفن والأدب والثقافة، وانتشار وسائل التواصل والاتصال الواسع، من الراديو إلى التلفزيون إلى الهاتف إلى الفيديو إلى الإنترنت إلى وسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر واليوتيوب والسكايب والواتس أب والزوم وأخيراً الكلوب هاوس الذي هو في الحقيقية صالون لكل مواطن.
وترى الأديبة الشاعرة مي شهرستان: “لكل عصر ناسه، ومنابر يطل بها المثقفون والمفكرون والأدباء بألوان جديدة للتعبير والتفكير والتواصل الثقافي وتبادل المعرفة. لقد فتح العصر الحديث لنا أبواب أوسع وأشمل، لا تقتصر على فئة أو طبقة معينة، وكان لذلك دور كبير ومؤثر جداً في تبادل الآراء على نطاق واسع، وحول كل شيء، ببساطة وسهولة، ودون كلفة، ولا قيود.
وقد يعتبر البعض أن غرف الدردشات وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي شكل جديد للصالونات الأدبية قدمتها لنا التكنولوجيا الحديثة.
هذه فرصة لإعادة طرح موضوع المرأة، لأنه مازال أمامنا الكثير لعمله في هذا المجال، إضافة إلى الالتفات إلى حاجات الشباب، وتوجيه وصقل طاقاتهم وإبداعاتهم ومواهبهم”.