شهدت الأبحاث العلمية حول السلوك والتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، تغيّرات كبيرة في الربع الأخير من القرن العشرين. ويبدو أن بعض هذه التحولات ناجمة عن زيادة مشاركة النساء في الإنتاج العلمي في هذا المجال، وقد وجّهت الباحثات اهتمامهن نحو الحاجات المعرفية المتعلّقة بالحياة اليومية، ولاسيما ما يخصّ النساء، آخذات في الحسبان العوامل الاجتماعية والثقافية والظرفية لبناء المعرفة. واستبدلت بعض الباحثات مفهوم السلوك المعلوماتي بمفهوم الممارسات المعلوماتية ليشمل مختلف أنواع التعامل مع المعلومات من مصادرها الشكلية وغير الشكلية، وعبر سبل مختلفة لتلقّيها.
وربما ما ميز تجارب بعض النساء البحثية في هذا السياق، أنها غالبا ما حاولت التركيز على تفاعلات اليومي في حياة النساء مع وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام الانترنت. فشرائح كبيرة من النساء اليوم بتنا فاعلات في هذا العالم في أكثر من مجال، سواء من خلال الترويج لخطاب خاص بهن، أو المشاركة في النقاش العام، أو حتى عبر التسويق، والانضمام لمجموعات نسوية، وأحيانا غير نسوية. وكل هذا التطور في استخدام النساء للإنترنت، ولوسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، انعكس على واقع الدراسات النسوية، إذ أخذ بعض الباحثات يركزن على موضوعات تتعلق بالعواطف والمشاعر، التي تعيشها النساء في عملية البحث عن المعلومات وتلقّيها. وربما كمثال أخير على هذا التناول النسوي المعرفي لدور الرقمي في حياة النساء العربيات، نشير إلى الكتاب الصادر حديثا عن تجمع الباحثات اللبنانيات بعنوان «النساء العربيات والمرجعيات في ظل الرقمنة».يضم الكتاب مجموعة من الأبحاث العميقة التي تناولت دور الإنترنت في حياة النساء في عدد من المدن العربية، القاهرة، الدار البيضاء، غزة، بيروت، وهو ما وفر لنا مقاربات جيدة لليومي العربي في العقود الأخيرة. ويحسب لتجمع الباحثات اللبنانيات في السنوات الاخيرة، رغم قلة إصداراته، أنها غالبا ما ركزت على قراءة تفاصيل دقيقة في الحياة العربية للنساء، بدءا بعلاقتهن بالمال، والحروب والثورات، وغيرها من الموضوعات اليومية، ما جعل هذا التجمع واحداً من أهم التجمعات النسوية العربية التي تحاول مقاربة حياة النساء اليومية بأدوات منهجية ومعرفية متميزة.
تتوقف الباحثة لمى كحال، عند صانعات محتوى لبنانيات على مواقع التواصل الاجتماعي. يعتمد الناس، رجالا ونساء، على المعلومات، سواء تلك التي يبحثون عنها هم على شبكة الإنترنت، أو تلك التي تلاحقهم عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. فهذه المعلومات المتدفقة بشكل متسارع تساعد الأفراد على تدبّر شؤونهم اليومية في مجالات كثيرة، مثل الصحة والتربية والرياضة والطبخ، وغيرها، وبالتالي تغدو على المدى الطويل مرجعيات تحظى بالسلطة والتأثير في متابعيها. ومما يلاحظ في هذا الجانب، أن أعداداً كبيرة من النساء قرّرن الانتقال من مستخدمات للمعلومات، ومتلقّيات للمحتوى، إلى منتِجات لهذه المعلومات، صانعات للمحتوى، بل ومؤثّرات يتطلّع إليهنّ الآخرون كنماذج، ولذلك تحاول كحّال دراسة حياة هؤلاء النساء المؤثرات، وطبيعة المحتوى الذي يصنعنه.
للإجابة عن هذه الأسئلة، اختارت عينة من خمسة وعشرين حسابا لسيدات لبنانيات من فئات عمرية مختلفة، ومن خلفيات متنوّعة، ومن خلال هذه العينة تصل الباحثة الى تقسيم صانعات المحتوى في لبنان لثلاث فئات: فئة المحتوى المبني على المعلومة، فئة المحتوى المبني على الاستعراض الذاتي، وفئة المحتوى المبني على الترويج للعلامات التجارية. وتبيّن لها أن المرجعية المستقاة من العلم والخبرة المهنية والعملية هي الأقرب إلى المرجعيات المعرفية التقليدية، رغم ما تتسم به من تسطيح للمعلومات، وغياب للمراجع العلمية، والتأكيدات المفتقرة الى الأدلة والحجج، في حين أن المرجعية المتّسمة بالنرجسية والاستعراض الذاتي، تميل إلى تقديم نموذج نمطي عن الجمال والأنوثة وعن المرأة بعامة. أما مرجعية السوق والمال، فهي الكبرى عن هذا المحتوى، بما في ذلك قضايا النساء ومشكلاتهن في سياق المجتمع اللبناني.
وفي سياق متصل، تحاول الباحثة دينا الخواجة دراسة دور صانعات المحتوى في مصر، في موجات التضامن مع غزة، ومما تلاحظه في هذا الجانب، أن بعض هؤلاء الصانعات تحولن الى مقاولات مظلومية لحراك اجتماعي واسع، كما أنتجن عدداً من السرديات حول مظلومية غزة، بعيدا عن مفردات المجال السياسي الرسمي في مصر، راسمات بذلك نموذجا للحركات الاجتماعية القاعدية المرنة والمؤقتة، رغم التضييق على حريات التعبير في مصر.
وفي موضوع متصل، تلاحظ كل من رانيا جواد ومادلين الحلبي تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي في حياة النساء الغزاويات في الحرب الأخيرة. فمن خلال شهادات حيّة كتبت من سبع نساء فلسطينيات عن بعض الأدوار التي أدتها وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة إليهن خلال الحرب الأخيرة، تنقل هذه الشهادات تجارب مختلفة، منها ما يصف بناء وتشكّل شبكة تواصل ما بين نساء القطاع، ومنها ما ينقد قمع الحقيقة من قبل الشركات العالمية لصالح السردية الاستعمارية، ومنها ما يشير الى أن محاولات الاتصال بشبكة الإنترنت كانت المصدر الوحيد لمعرفة المعلومات حول من استشهد، ومن هُدم منزله أو منزلها، إضافة الى سرد تفاصيل العيش اليومي في ظل الحرب. لقد خرقت أصوات هؤلاء النساء جدار التعتيم، وأسهمت في إظهار صمود غزة وإبراز حقيقة ما يجري، أكثر من أي مناشدات لأخلاقية كونية لم تكن لتسمح لهذا التدمير غير المسبوق، وهذه العقوبات الجماعية، وهذا التعذيب، والقتل الجماعي. إنما كانت وسائل التواصل تؤدي دورا مزدوجا، فهي من ناحية أداة استعمارية ضمن آليات الحرب، ومن ناحية أخرى، جزء من آليات البقاء والمقاومة والحضور العالمي للفلسطينيين المعرّضين للقتل. ولكن ماذا عن اليومي والتقليدي؟
ربما معظم الدراسات في الكتاب ركزت على جوانب تتعلق بالسياسات والحروب وتأثيراتها على استخدام النساء لشبكات التواصل الاجتماعي، وهو موضوع كان له التأثير الاكبر فعلا في اتجاه النساء لهذا العالم في فترات معينة منذ بدايات الربيع العربي ولليوم، كما في حالة المغرب. إذ وجدت النساء في البيئة الرقمية والخدمات التكنولوجية، فضاء ممكنا لتحقيق التحوّل التاريخي في الموقع، والانتقال من مجرد موضوع للتداول السياسي والأيديولوجي، إلى موقع للذات القادرة على تفعيل قدراتها لتحقيق تنمية اقتصادية، باستثمار الخدمات التكنولوجية. مع ذلك، تلاحظ زهور كرام أن هناك عاملا آخر عزز من حضور الرقمي في حياة النساء المغربيات، وهو ما يتعلق بالحجر الصحي، الذي فرضه فيروس كورونا، ولعب دورا مساعدا في انخراط النساء المغربيات في البيئة الرقمية والانفتاح على خياراتها المتعددة، واستثمار إمكاناتها، وتحويل تقنياتها ومنصاتها إلى فرصة للعمل، وإنتاج محتوى يعود بدخل مالي. وقد اتجهن خصوصا إلى دعم قدراتهن لتطوير مشاريع مهنية تفيد وضعهن الاجتماعي والاقتصادي.
وفي جانب آخر، حاولت زينب خليل تتبع علاقة الطالبات الجامعيات المتحدرات من الأرياف اللبنانية في الجنوب والبقاع بالبيئة الرقمية. ومما يلاحظ هنا أن عالم الإنترنت ساعد هؤلاء الطالبات في الوصول إلى أجوبة لا تتوافر في محيطهن، وفي تحسين بعض اوجه حياتهن، لكن بقيت الجامعة ساحتهن الفعلية للاختبار وعيش التجربة. أما في علاقتهن ببيئتهن الريفية، فلم تظهر الطالبات ميلاً إلى إحداث قطيعة مع تلك البيئة، رغم حصول اهتزاز للكثير من المرجعيات فيها. وبالتالي، ما يمكن ملاحظته من هذه الدراسة وبعض الدراسات الأخرى في الكتاب، أن ظهور الرقمي في حياة النساء لم يؤد بالضرورة إلى قطيعة مع المراجع التقليدية وتحوله إلى المستشار الأول في حياتهن، إنما ما يزال لليومي والشبكات التقليدية دور في حياة هؤلاء النساء بأشكال مختلفة، بل يمكن القول أحيانا، إن الرقمي ساهم في دعم عالم التقليد ذاته من خلال ترويج بعض النساء لآراء دينية تقليدية، أو غيرها من الأفكار الأخرى