إن أي تقسيم للقرآن الكريم، من حيث بناؤه المعطى، كما هو في المصحف، أو الموضوع، حسب اختيار الشارح أو المفسر أو المؤول إذا لم ينطلق من تحديد البؤرة الناظمة للنص القرآني تظل مسارات عمله مفتوحة وغير مقيدة، بما تفرضه عليه تلك التقسيمات الجزئية. لكن ضبط تلك البؤرة التي عليها مدار كل ما يتعلق به النص، تجعله أمام بنية نصية كبرى تنظم ما تفرق، وتوزع في سور وآيات.
أوقفتُ «القرآنية»، باعتبارها الموضوع الذي انطلقنا منه، فيما اختزلته في البنية النصية الكبرى التي نجدها في جملة واحدة، تجمعها آية مركزية عليها مدار النص بكامله: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات 56). ولذلك فدلالتها تحضر بأشكال وصيغ متعددة في كل سورة أو آية من القرآن الكريم. إن الآيات الدالة على الخلق، وعلاقته بالعبودية محور النص القرآني، وعليها مداره، يبدو لنا في كون جذر كلمة (خ. ل. ق) يتكرر في القرآن الكريم ثمانين مرة. ولا تكاد سورة تخلو من كلمة الخلق، أو ما يدور في حقلها الدلالي (جعلنا، أنشأنا، مهدتُ)، أو يتصل بها من أفعال خاصة بالذات الإلهية، والتي تعني: «الإنتاج» على غير نموذج، أو مثال، إنها خالصة لله، أما العبودية فخاصة بالإنسان. وهي إلى جانب تأكيدها ذاتية المتكلم (الله)، تتضمن بؤرة النص القرآني، وكل الآيات والسور تدور في نطاقها، ولا تخرج أي آية عنها. فلولا الخلق لما كان لأي كائن ليكون. إنها بمثابة المجال المغناطيسي الذي يجتذبها، ويجعلها بذلك مترابطة مع غيرها في دورة لا نهائية. وهنا مكمن لا خطية القرآن الكريم بالقياس إلى غيره.
تتحقق كلمة «الخالق» في القرآن الكريم بكل أسماء الله، وصفاته، وأفعاله، وأقواله. أما ارتباطها بعبودية الإنسان فبسبب ما خص الله به الإنسان من مقومات لا توجد في غيره. وإلا فالله: «تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن. وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم» (الإسراء، 44). لذلك نرى أن صلة الخلق بالعبودية، وهي محور البنية النصية الكبرى، قابلة لأن تتجسد من خلال بؤرة مركزية يتحدد من خلالها هذا المحور. نجد هذه البؤرة في إحدى الصفات المتصلة بالخالق، وهي العليم.
لقد قرن الخالق العبودية بالعلم، وخص الإنسان بمقوم قبول التعلم، ولذلك بعث الأنبياء والرسل. وليس القرآن الكريم وهو يدور حول هذه البؤرة النصية، سوى «تعليم» الإنسان ما به تتحقق إنسانيته. نعاين ذلك بجلاء في كون أولى الآيات قد ربطت القراءة بالخلق: «اقرأ باسم ربك الذي خلق». وجعلت القراءة والتعليم علما من الله، وبه يتوجه إلى الإنسان: «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم». وتبعا لذلك نعاين أن مختلف الآيات القرآنية تدور بشكل أو بآخر في فلك هذه البؤرة النصية، وقد اتصلت بالخالق وبمختلف صفاته، وكل أقواله وأفعاله في القرآن الكريم.
سنتوقف على علاقة الخلق بالعبادة والعلم من خلال بعض الآيات، ويمكننا تعميم ذلك على أي من صفات الخالق، لنقف على أن كل الآيات القرآنية تدور في الفلك نفسه، وهي تتصادى، وتترابط، وتلتقي حول تلك البؤرة المركزية. ويمكننا توزيع الآيات إلى دوائر تتصل أولاها بتجسيد العلاقة بين الخلق والتعليم، أو العلم: «الرحمن علَّم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان». فالذي خلق الإنسان هو من علمه عن طريق القرآن الذي أنزله على رسوله (ص). وفي الدائرة الثانية نجد الرد على المتشككين الذين ينكرون علاقة القرآن بالخلق والتعليم، بتأكيد أن الله لم يعلم رسوله الشعر: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له. إن هو إلا ذكر وقرآن مبين» (يس، 69)، أو ادعاء أن من يعلم الرسول بشر: «ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر» (النحل، 103)، أو التولي عن الرسول بزعم أن هناك من يعلمه من البشر: ثم تولوا عنه، وقالوا مُعلَّم مجنون» (الدخان، 14).
أما الدائرة الثالثة فتبدو في الإشارة إلى من يتوجهون بالعبادة إلى غير الخالق بسبب عدم امتلاكهم العلم الذي يقيهم ما يتخبطون فيه من جهل: «ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون» (الزخرف، 20). وتبدو لنا الدائرة الرابعة فيمن يدَّعون امتلاك علم مبني على الظن، ويزعمون أنهم على الحقيقة: «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» (الجاثية، 24). وأخيرا، نجد التحدي القرآني للذين يشركون بالخالق، ولا يعبدونه، مطالبا إياهم بالكشف عن «العلم» الصادق الذي يبنون عليه عدم إيمانهم بما جاء به القرآن الكريم: «أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات. ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين» (الأحقاف، 4).
نعاين من خلال مفردات: الخلق، العبادة، العلم، في القرآن الكريم كيف أنها موزعة على ما لا يحصى من الآيات في مختلف السور، وتدور كلها في الفلك نفسه. ولو انطلقنا من الخالق والعبادة من مختلف الحقول الدلالية المتصلة بهما، والمتولدة عنهما سنجد كل البنيات النصية الجزئية تترابط وتدور كلها في نطاق البؤرة عينها. وفي كل هذا نستخلص انسجام النص القرآني وترابط مكوناته.