استحوذ الذهب على عقول البشر وأفئدتهم، وفتنهم بريقه منذ تشكل الحضارات ونشوء المجتمعات وتطورها، فكرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وشهدت علاقة الإنسان بهذا المعدن النفيس تحولات درامية خلال مسيرة الحضارة البشرية، لكن أولى عرى هذه العلاقة توطدت في المجتمعات القديمة على أسس غير مادية، إذ كان الذهب رمزاً للحياة الأبدية لما تميز به من خصائص فريدة، لعل من أهمها ديمومته وقدرته على الصمود في وجه الزمن، وفي عصر ما قبل التاريخ كان الذهب يدفن تحت الأرض نذوراً للآلهة، ويلقى في الأنهار والبحيرات المقدسة طلباً للبركة والقبول. وأدى دوراً كبيراً في الطقوس والشعائر، من دون أن تصبح قيمته محلاً للتبادل التجاري. لقد جسد الذهب لحظة الوداع الأخير، فكان يصاحب الموتى عوناً لهم في طلب الخلود، كما استخدم ولا يزال رمزاً للثروة والرخاء والمكانة الاجتماعية.
ذلك كذلك، فبالتوازي مع تطور الفكر الإنساني وتقدم المجتمعات والاقتصادات نشأت الحاجة إلى تنظيم التبادل التجاري باستخدام وسيط يحمل في مادته قيمة حقيقية، إذ كانت النقود تضرب من معادن رديئة لا تنطوي على أية قيمة.
من هنا ظهرت العملات الذهبية، على رغم أنه من غير المؤكد أين نشأت بالتحديد، فإن الحضارات القديمة من دون أدنى شك، كالمصرية والبابلية والرومانية والفارسية، قد عرفت طريقها إلى سك عملات ذهبية أسست عليها أنظمتها المالية، وضمنت لها استقرار قيمة تبادلاتها التجارية لا سيما الخارجية مع دول الجوار، وساعد الذهب في كل الأحوال على توطيد سلطة تلك الدول ونفوذها، فكان حضورها في الداخل بالنسبة إلى رعاياها، ومغامراتها في الخارج سواء كانت مدنية أو عسكرية، تستند إلى ما تملكه من مقدرات ذهبية تتيح لها حرية الحركة... هل استمر الذهب على هذه الحال مع الأنظمة الحديثة، وما الذي تغير منذ نحو خمسة عقود في شأنه، وما الذي يستدعي الحديث عن الذهب الآن مرة جديدة؟
لعل ما استدعى ويستدعي فتح ملف "الأصفر الرنان"، مرة جديدة، سعي غالبية دول العالم أخيراً في طرق تكديس الذهب، وتفضيل المعدن النفيس على أي سندات مالية، وبخاصة السندات الأميركية، على رغم أنها الأكثر أماناً، لا سيما في ظل ارتكازها على الدولار الأخضر، سيد العملات النقدية الورقية منذ أمد بعيد.
منذ أوائل العام الحالي يرصد المراقبون الاقتصاديون طلبات متزايدة على الذهب من البنوك المركزية للدول، فقد شرعت الصين وهي ثاني أكبر اقتصاد عالمي في زيادة حصتها من الذهب ومن غير هوادة، وذلك في سياق رؤية تعمد إلى تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي.
ترسخت المخاوف عند الصينيين بخاصة، ولدى بقية القائمين على اقتصادات العالم منذ الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008، أزمة البنوك الأميركية التي نشأت بسبب ظاهرة التوريق، حيث ظهرت المخاوف من الاعتماد على قوة الإلزام النقدي فقط للدولار، مما فتح الباب واسعاً للتحوط من انهيار النظام العالمي المالي مرة جديدة.
وبحسب صحيفة "فايننشال تايمز" أظهرت بيانات مجلس الذهب العالمي WGC أن الطلب على المعدن النفيس قد تجاوز أي مبلغ سنوي في الـ55 عاماً الماضية.
هل هرب البنوك المركزية إلى الذهب يشير إلى أن الخلفية الجيوسياسية هي مرحلة من عدم الثقة والشك وعدم اليقين، بعد أن جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها احتياطات روسيا من الدولار؟
يجيب محللون من معهد الأبحاث التابع لبنك "كريدي سويس" السويسري، في تقرير أخير له، بأن الأوضاع المستقبلية المظلمة للنظام المالي النقدي مقلقة، مع حالة فقدان الثقة في الاقتصاد الأميركي في ظل ارتفاع معدلات التضخم ووجود عجز ضخم في الميزانية الأميركية (1.3 تريليون دولار) وديون هائلة (31 تريليون دولار مما يشكل 121.5 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي).
خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي أفاد بنك الشعب الصيني أنه حقق أول زيادة في رصيده من الذهب منذ عام 2019، مع زيادة قدرها 32 طناً بلغت قيمتها نحو 1.8 مليار دولار أميركي، وسط توقعات بأن يكون الرقم الفعلي أعلى من المعلن.
والمعروف أن الصين قد فرغت غالبية سنداتها في الدولار الأميركي، إذ باعت 121.2 مليار دولار من الديون الأميركية، أي ما يعادل نحو 220 طناً من الذهب، بين نهاية فبراير (شباط) مباشرة بعد أول هجوم لروسيا على أوكرانيا، ونهاية سبتمبر (أيلول)، وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية.
هل هي بداية لتغير جديد في علاقة الأنظمة المالية العالمية بالذهب، بعد أن ظن الجميع أن ما يعرف بـ"صدمة نيكسون" أنهت تلك العلاقة مرة وإلى الأبد؟
معيار الذهب أولى مراحل التبدل
في منتصف القرن التاسع عشر اندلعت أحداث ما يعرف بفورة الذهب أو حمى الذهب، وقد كان ذلك بين العامين 1848- 1855، وبدأت جموع الأميركيين وغيرهم الآتين من دول العالم بالتهافت على الغرب الأميركي سعياً وراء الذهب.
بعد فورة الذهب في كاليفورنيا بـ15 عاماً بدأت إرهاصات تشكل نظام نقدي جديد عرف بقاعدة الذهب، أو معيار الذهب Gold Standard كأولى مراحل تبدل الذهب داخل النظام النقدي، والتي ستعقبها مرحلة قاعدة الصرف بالذهب.
تعرف الفترة ما بين 1880- 1914 بفترة معيار الذهب التقليدي، وشهدت نمواً اقتصادياً غير مسبوق مع درجة نسبية من حرية تجارة السلع والعمل ورأس المال، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، اضطرت الدول إلى التخلي عن العمل بمعيار الذهب في عام 1914 بسبب حاجة الحكومات الملحة إلى التوسع في إصدار الأوراق النقدية من دون التقيد بكميات الذهب المقابلة، وذلك لتمويل كلف الحرب.
ساءت الأحوال الاقتصادية بعد الحرب ووجهت أصابع الاتهام إلى معيار الذهب في إطالة أمد الكساد في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضي، إذ لم تستطع الاقتصادات التوسع في إصدار النقد لتنشيط الاقتصاد وسد عجز الميزانية.
تسبب التطبيق الصارم لمعيار الذهب في موجات مطردة من البؤس عبر العالم، إذ كانت التقلبات المفاجئة في التجارة تستنزف المعروض من الذهب وتمزق أوصال الاقتصاد.
لاحقاً تدخل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت لتأميم الذهب وحظر تناوله بين الأفراد ومؤسسات القطاع الخاص، وأبطل العقود التي حددت مدفوعاتها بالذهب.
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت مرحلة جديدة عرفت بنظام "بريتون وودز" 1946، تم من خلاله تثبيت سعر صرف عديد من عملات دول العالم بالدولار.
استمر العمل بهذا النظام، الذي قدر أونصة الذهب بمبلغ 35 دولاراً إلى عام 1971، وفيه ستنتهي قصة ربط الذهب بالعملات العالمية، الدولار الأميركي، والاسترليني الإنجليزي، والين الياباني، العملات الثلاث المهيمنة في ذلك الوقت، وقبل أن يولد اليورو بنحو خمسة أو ستة عقود... ما الذي حدث؟
صدمة نيكسون وفك الارتباط الذهبي
وسط أوضاع اقتصادية أميركية متردية، بلغت فيها نسبة البطالة في الداخل الأميركي نحو 6.1 في المئة وذلك في أغسطس (آب) 1971، كما بلغ معدل التضخم المالي 5.84 في المئة... في ذلك الوقت عينه كانت الخزانة الأميركية تعاني أزمة عميقة بسبب المستنقع الفيتنامي، والكلف الهائلة للحرب الدائرة هناك، والتي انتهت بانتكاسة أميركية واضحة وأقرب ما تكون إلى الفضيحة المدوية.
فاجأ نيكسون الأميركيين بتعيينه جون بي كونالي وزيراً للخزانة، في ديسمبر (كانون الأول) 1970، فقد سبق وكان كونالي أحد أفراد حكومة جون كيندي، الغريم الذي ألحق بنيكسون خسارة فادحة عام 1960 في المناظرة التي ظهر فيها الأخير مرتبكاً ومضطرباً.
عرف كونالي بأنه صاحب عقلية اقتصادية فذة ومتميزة للغاية، وربما لهذا فر نيكسون معه إلى كامب ديفيد، في خلوة مع بقية مستشاري الرئيس للعمل على إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية الأميركية التي تتفاقم يوماً تلو الآخر، لا سيما بعدما باتت أزمة التضخم الاقتصادي التصاعدي وارتفاع الأسعار تؤثر في حياة كل الأسر الأميركية.
خلص اجتماع كامب ديفيد إلى سلسلة من التدابير الاقتصادية وأهمها إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب.
لم تلغ إجراءات الرئيس الأميركي نيكسون نظام "بريتون وودز" للصرف المالي العالمي بشكل رسمي، لكن تم تعليق واحد من أهم مكوناته الرئيسة أي ربط العملات العالمية بالذهب.
من بين تلك الإجراءات أصدر نيكسون قراراً بفرض تجميد الأجور والأسعار لمدة 90 يوماً لمواجهة التضخم، وفرض 10 في المئة كرسوم إضافية على الاستيراد لحماية المنتجات الأميركية من الاحتضار بسبب التقلبات المتوقعة في أسعار الصرف.
في أول الأمر كان نيكسون قلقاً من أن إغلاق نافذة الذهب سيعتبر بمثابة إشارة إلى الأميركيين بأن حكومتهم مفلسة، لذلك أضفى على الإجراء ملمح الدفاع عن العملة الوطنية في مواجهة المضاربين الأجانب.
عندما أطفئت أنوار البث التلفزيوني في المكتب البيضاوي عند ختام كلمة الرئيس، تحول الدولار الأميركي من حق سحب الذهب إلى ورقة نقدية ستكون قيمتها منذ ذلك الحين فصاعداً مسألة تقدير، لكن ماذا حل بالذهب في واقع الأمر؟
الشاهد أنه تحول إلى شيء آخر، إذ تبدلت هيئته في العقل البشري فهو لم يعد عملة صعبة، ولا شيئاً يمت بصلة إليها، بل أصبح نقداً وهمياً في مخيلة الإنسان، نقداً رديفاً، كما يقول ماثيو هارت الكاتب الاقتصادي الأميركي الشهير في مؤلفه "الذهب... التنافس على أكثر معادن العالم إغراء".
غير أنه وبعد أربعة عقود مرت على صدمة نيكسون طرح رون باول أحد كبار المستثمرين في الذهب من تكساس سؤالاً على بين برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي للولايات المتحدة) "عندما تستيقظ في الصباح هل تلقي بالاً لسعر الذهب؟".
كان جواب برنانكي "نعم ألقي بالاً لسعر الذهب... أعتقد أنه يعكس كثيراً من الأمور. إنه يعكس حالة من عدم التأكد على الصعيد العالمي، وأرى أن السبب الذي يعدو بالناس إلى حيازة الذهب هو التماس الحماية مما نطلق عليه (مخاطرة الاحتمالات المتطرفة) أي التداعيات أو العواقب السيئة... حقاً... حقاً".
هل تعني إجابة بين برنانكي هذه احتمالات العودة مرة أخرى إلى ربط نظام النقد العالمي بالذهب والعودة إلى مرحلة ما قبل صدمة نيكسون مرة أخرى أميركياً وعالمياً، أم أن هناك ما يعوق ذلك؟
هل لا يزال الذهب يشكل أهمية استراتيجية؟
تركت الأزمة العالمية عام 2008 انطباعاً مخيفاً عند كثيرين حول صلاحية النظام النقدي، وجاءت انهيارات بعض بنوك وادي السيليكون الأميركي العام الحالي، وتوقعات بانهيارات مماثلة لتطرح تساؤلاً جدياً عن مستقبل هذا النظام القائم على قوة الاعتماد القانوني، والذي من خلاله تتم عملية طباعة الأوراق المالية حول العالم وفي المقدمة منها الدولار الأميركي.
على أنه وفيما أوضاع النقد الورقي تتعرض للشكوك والأخطار، ويلفها الخوف، تطفو على السطح عوامل تعزز من مكانة الذهب عالمياً.
أخيراً استعرض مجلس الذهب العالمي، عبر دراسة أجراها، أبرز الخصائص التي تعزز أهمية المعدن الأصفر اقتصادياً، والتي تضعه على قائمة المعادن الاستراتيجية في العالم.
في المقدمة حقق الذهب عائداً أفضل من جميع السلع الأخرى على المدى الطويل وأخطاراً أقل، إذ حقق متوسط عائدات سنوية قدرها 10.4 في المئة منذ إلغاء معيار الذهب عام 1971، وعائداً سنوياً بلغت نسبته 7.6 في المئة، مما جعل أداءه الاستثماري يتماشى مع مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" على المدى الطويل.
كما أنه يتمتع بخصائص تنويع مهمة في فترات الأخطار، مما جعله أكثر الاستثمارات التنويعية فعالية مقارنة مع السلع الأخرى، إذ لبى رغبة المستثمرين في البحث عن أصول سائلة عالية الجودة تحافظ على رأس المال وتقلل من الخسائر، فعلى سبيل المثال ارتفع الذهب بنسبة ثمانية في المئة فيما تراجعت السلع الأخرى بنسبة تسعة في المئة خلال عمليات بيع الأسهم العالمية خلال الفصل الرابع من عام 2018.
عطفاً على ذلك يشكل الذهب استثماراً سائلاً بدرجة عالية، فهو يأتي في المرتبة الثانية بعد النفط بمتوسط أحجام يومية للتداول تبلغ 51 مليار دولار في سوق العقود الآجلة، يليه الغاز الطبيعي وزيت التدفئة، أما في العموم فيتراوح متوسط التداول اليومي في سوق الذهب العالمية بين 100 و200 مليار دولار، والعهدة هنا على البيانات الواردة من صندوق النقد الدولي.
كما يشكل الذهب حماية ضد أخطار التضخم، ففي الوقت الذي وقعت فيه السلع الأخرى ضحية موجات التضخم الركودي خلال السنوات الماضية سجل الذهب عائدات إيجابية، مما انعكس بطبيعة الحال على معدلات زيادة الطلب عليه.
ولأن معظم اقتصادات العالم تتوقع زيادة في معدلات التضخم في الفترات المقبلة وحتى نهاية العام، فهل يعني ذلك أن القضية لم تعد فقط زيادة في الطلب على الذهب بل احتمالات للعودة إلى المعدن النفيس كمعيار مالي، أي إلى زمن "بريتون وودز"، ونهاية صدمة نيكسون؟
العودة إلى الذهب... الفرص والتحديات
الثابت أنه على رغم كل المميزات التي يطرحها الذهب كوعاء للأمان والضمان، بأكثر كثيراً جداً من عملية الإلزام النقدي التي يمكن اعتبارها وهمية بصورة أو بأخرى، فإن هناك عقبات وتحديات في طريق تغيير المسار النقدي المالي العالمي الذي استمر طوال خمسة عقود ونيف، وبخاصة في ظل حالة تشابك المصالح العالمية والتي لم تكن قائمة بالفعل في عام 1971 حين اتخذ نيكسون قراراته المتقدمة.
بداية التحديات من عند حالة عدم التوازن بين الإنتاج العالمي من الذهب، والذي لم يتجاوز عام 2022، 3100 طن، بحسب بيانات هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية، والناتج العالمي المقدر بالدولار ويبلغ نحو 100 تريليون دولار، وهو رقم يفوق بكثير جداً قيمة الذهب المنتج في العام نفسه، مما يعني أن هناك احتياجاً لفترة انتقال وتحول طويلة جداً زمنياً لموازنة الأمرين.
وعند عديد من الخبراء الاقتصاديين أن مسألة إعادة اعتماد المعيار الذهبي تشوبها صعوبات، لا سيما حال اختيار نوعية الذهب التي سيتم من خلالها موازنة النقد، فهل سيحدث ذلك عبر عيار 24 أم عيار 22، أم عيار 21؟
ثم هناك أنواع مختلفة من الذهب الخاضعة لتقييمات عالمية مختلفة، بحسب كمية المعادن الأخرى داخله لا سيما النحاس، ولهذا فإن الذهب الهندي له وضع غير الصيني، وكلاهما يختلف عن الذهب الأوروبي أو الأميركي، مما يعني أن المعايير غير واضحة، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في بلبلة واسعة في الأسواق المالية العالمية، يمكن أن تقود إلى انهيارات ليست من صالح الاقتصاد العالمي.
والمقطوع به كذلك أنه على رغم مما للذهب من أهمية في النظم المالية والتجارية عبر التاريخ، فإن ذلك الأمر يتضمن أخطاراً مبطنة في الوقت نفسه، ذلك أن الذهب ظل طوال التاريخ مجالاً للمضاربات المالية شرقاً وغرباً، الأمر الذي يفقده ميزة الاستقرار.
هنا لا بد من القول إن الذهب الذي كان يتميز في القرن التاسع عشر وحتى نصف القرن العشرين بثبات شبه مطلق، يواجه اليوم مضاربات في أسواق النفط والغاز، مما يجعل سعره تابعاً، وليس متبوعاً.
أما الجزئية الثالثة والتي تجعل من فكرة العودة إلى زمن نظام "بريتون وودز" صعبة بشكل واضح، فموصولة بالأوضاع السياسية، ذلك أنه في عام 1946، حين تم إرساء نظام "بريتون وودز" كانت الولايات المتحدة القطب المسيطر والمهيمن على مقدرات العالم اقتصادياً بعد انتصارها الكبير في قيادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. اليوم حكماً يختلف المشهد، إذ تبدو كيانات اقتصادية وليدة جديدة في الطريق لسماوات الاقتصاد العالمي، ولن تكون جماعة (بريكس بلس) آخرها، وهو ما رسخ في أذهان كثيرين الذين تابعوا أعمال قمة هذه المجموعة الأخيرة في جوهانسبورغ.
هنا سيكون من الصعب بمكان الاتفاق على معيار ذهبي واحد، لا سيما في ضوء الخلافات السياسية، ناهيك بالمواجهات العسكرية، والتي يمكن أن تجعل مجلس الذهب العالمي الموحد يتشظى بدوره ضمن سياقات افتراقية عولمية لا وفاقية دولية.
وفي الخلاصة هل يعني ذلك أن النظام المالي العالمي الحالي لن يعير انتباهاً للقيمة التي يمثلها الذهب؟
مما لا شك فيه أن هناك حالة يمكن أن نسميها "حمى الذهب " تجتاح العالم، فعلى رغم سيطرة الدولار شبه المطلقة، فإن المعدن الأصفر النفيس لا يزال يتمتع ببريقه وجاذبيته، بل إنه حكماً سيضطلع بدور مهم في المرحلة الاقتصادية المقبلة.
هنا لا بد من الإشارة إلى جزئية مهمة للغاية، وهي أن ثورة وفورة "الذهب الأصفر" ستترتب عليها تغيرات جيوسياسية مثيرة وخطرة، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى أحوال القارة الأفريقية والصراعات العسكرية التي تعود إليها اليوم، بعد نحو خمسة عقود من رحيل الاستعمار الغربي.
اليوم تبدو القارة الأفريقية، المصدر الثري جداً للذهب الأصفر، ملعباً للحروب بالوكالة تارة، وللصراعات المباشرة تارة أخرى، لا سيما في ظل لاعبين جدد.
إن الصين على سبيل المثال تتحول يوماً تلو الآخر إلى باحث نهم عن ذهب القارة الأفريقية، وهي في الوقت عينه تحتل صدارة الدول المنتجة للذهب في العالم.
روسيا التي تتعرض لعقوبات غربية لا تتوانى في أن تجد لها موطئ قدم في القارة عينها، وفي أميركا اللاتينية مصدر الذهب الغربي في القرون الوسطى.
هنا تستشعر الولايات المتحدة خطراً يهدد قطبيتها، ولهذا تسارع إلى إعادة انتشارها عسكرياً لحماية مصالحها الاقتصادية والذهب في مقدمتها.
هل العالم إزاء فصل جديد سيكتب الذهب بعضاً من ملامحه ومعالمه؟
غالب الظن هذا ما سنراه عما قريب.