تخطي إلى المحتوى
سار وإجى وصار "ساروجة"... حكايات عن "إسطنبول الصّغرى" في دمشق سار وإجى وصار "ساروجة"... حكايات عن "إسطنبول الصّغرى" في دمشق > سار وإجى وصار "ساروجة"... حكايات عن "إسطنبول الصّغرى" في دمشق

سار وإجى وصار "ساروجة"... حكايات عن "إسطنبول الصّغرى" في دمشق

قد لا يعرف كثر من زوّار "حيّ ساروجة" أن الطرقات التي يمشون فيها هي جزءٌ مما كان يسمّى ذات يوم "إسطنبول الصّغرى" لمكانته التجارية والحضارية، لكنهم دون شك يدركون بأنهم ما إن يدخلوا سوق الحيّ الرئيسي، وهو المعروف بسوق ساروجة، أو يتجهون يمنةً أو يسرةً نحو واحدة من حاراته الفرعية الضيقة للغاية، والتي بالكاد يتسع بعضُها للمشاة، حتى يقعوا في واحد من أقدم أحياء دمشق وأكثرها تنوعاً وغنىً.

بابتسامات عريضة وروائح نفاذة تدخل نحو القلب مباشرة، وأصوات تختلف حدّتها وشكلها بين ساعة وأخرى، يستقبل حيّ ساروجة وسط العاصمة السورية دمشق، زوّارَه منذ مطلع اليوم حتى آخر النهار، ولا تهدأ الحركة فيه حتى ما بعد منتصف الليل من كلّ يوم.

بعض هؤلاء الزوار قادمون من أجل التسوق. منهم من يقصدون مخابز الحيّ ومطاعمه الشعبية ومقاهيه الصغيرة دوناً عن غيرها، أو يأتون مسرعين مع عوائلهم أو أصدقائهم نحو حمام الورد الشعبي الشّهير في الحيّ، لقضاء يوم مختلف، ويأتي آخرون لمجرّد "التمشاية" أي التسكّع.

 

من الآثار القديمة وصولاً إلى المحالّ والمقاهي

يبدو السوق للوهلة الأولى خليطاً من المحالّ المتناقضة والتي يندر أن تتجاور عادة، حيث يتخصص بعضها بالإلكترونيات والكهربائيات، والبعض الآخر ببيع الخضروات أو الموادّ الغذائية، كما تتناثر بين المحالّ بعض المخابز التي يعود تاريخ بعضها لأكثر من خمسين عاماً، إضافة إلى المطاعم الصغيرة التي تقدّم المعجّنات الطازجة والمأكولات الشعبية كالفول والحمّص والفلافل، ويخصّص بعضها مكاناً للجلوس وتناول الطعام وإن لبضع دقائق فقط.

لسوق ساروجة مدخلان يمكن أن تبدأ الرحلة نحوه من أحدهما. الأوّل من جهة شارع "الثورة"، وهو عقدة مواصلات حيوية هامّة وسط دمشق؛ والثاني من سوق "البحصة" المتخصّص بكلّ ما يتعلّق بالحواسيب والتّقانة. بكلتي الحالتين سيشعر الزائرون بعد قطع أحد المدخلين ببضعة أمتار، وكأنهم عبروا نحو عالمٍ آخر بعيد عن ضجيج المدينة وذي سحر مختلف عن أحيائها الأخرى.

 

وقد لا تلفت منازلُ الحي انتباهَ الزوّار كثيراً، حيث يبدو معظمها قديماً وشبه متداعٍ، وبحاجة لترميم وتأهيل عاجليْن، حتى إن نسبة منها لم تعد مأهولة على الإطلاق، ولكنها من الداخل، وكمعظم منازل دمشق القديمة لها طراز عمراني يجمع المساحة الكبيرة والغرف ذات النوافذ المرتفعة، وبعض الزخارف المنتشرة هنا وهناك.

وسط السّوق يستقطب عددٌ من المقاهي الشعبية مئاتِ الروّاد يومياً. منها ما يقع داخل بيوت قديمة ولها شرفات تطلّ على السوق، ومنها ما يتيح الجلوس على الطريق وتناول كأس من الشاي المغلي جيداً أو القهوة الصباحية المعدّة على الطريقة الشرقية

وسط السّوق يستقطب عددٌ من المقاهي الشعبية مئاتِ الروّاد يومياً، والذين يقصدونها لطابعها المميّز؛ فمنها ما يقع داخل بيوت قديمة ولها شرفات تطلّ على السوق، ومنها ما يتيح الجلوس على الطريق وتناول كأس من الشاي المغلي جيداً أو القهوة الصباحية المعدّة على الطريقة الشرقية. وإلى جانب المقاهي، تحول عدد من المنازل القديمة لفنادق صغيرة اعتادت أن تستقبل السيّاحَ بشكلٍ خاص نظراً لقُربها من مركز المدينة وتميّزها بطابع شرقي يختلف عن الفنادق الحديثة.

كما يضمّ الحيُّ عدداً من النقاط الأثرية الأساسية، ومنها المدرسة الشامية البرانية، والمدرسة الأهلية التي كانت ذات يوم بيتَ محمد علي العابد وهو أول رئيس منتخب لسوريا عام 1932، والتي تخرّج منها عشرات من رجالات وسيدات المجتمع، ومتحف دمشق التاريخي وكان منزل خالد العظم أحد أبرز السياسيين السوريين في القرن الماضي، إضافة إلى العديد من الجوامع وعلى رأسِها "جامع الورد"، والحمامات الشعبية ومنها "حمام الورد" و"الجوزة" و"الخانجي"، والسُّبُل المخصّصة لشرب المياه في الشوارع، وبعض الأضرحة أيضاً.

ما هي حكاية "إسطنبول الصّغرى"؟

يُطلق اسم ساروجة إدارياً على مساحة واسعة من الشوارع والأزقّة التي تقع في الشمال الغربي من مدينة دمشق القديمة، وهو أوّل حي أنشئ خارج أسوار دمشق على محور يمتدّ من "العمارة"، أحد أحياء المدينة القديمة، مروراً بحيّ "العقيبة"، وصولاً إلى "الصالحية". وكانت كافة هذه المناطق متصلة ببعضها بعضاً دون حدود واضحة بينها حتى قطعها شارع "الثورة" الذي شُيّد في سبعينيات القرن الماضي، وحينها أصبحت تسمية "ساروجة" تُطلق فعلياً على سوق الحيّ وعدد من تفرّعاته. وتختلف الروايات حول أصل كلمة ساروجة، والتي يكتبها البعض بالألف الممدودة، وآخرون بالتاء المربوطة.

 

أكثر هذه الروايات تداولاً تتحدّث عن إنشاء الحيّ بشكله السَّكنيّ في العهد المملوكي، وتحديداً في القرن الرابع عشر الميلادي، في عهد الأمير سيف الدين تنكز، نائب السّلطنة المملوكية في دمشق آنذاك؛ فسُمّي الحيّ نسبة لأحد القادة العسكريين وهو صارم الدين ساروجة، ويرِدُ اسمُه "صاروجا" لدى بعض المؤرخين.

وينسب بعض أهالي الحيّ التسمية لرواية متداولة بشكل شفهي عن وليٍّ تقيّ كان يقطن الحيَّ، وكان معروفاً بقدرات خارقة تخوّله السّفر عبر الأمكنة خلال دقائق فقط؛ فكانت حكاياته تتناقل بين الجميع على أنه "سار" و"إجى"، أي جاء بالعامية السورية، ومع مرور الزمن تحولت هذه الحكايات إلى ساروجا.

وفي عهد الحكم العثماني، ازدهر الحيّ وأصبح سوقُه من أهمّ أسواق المدينة. كما أنّ الحيَّ تكامل من حيث احتوائه على الجانب السَّكنيّ، وخاصة للطبقة البرجوازية، بجوار المساجد والحمّامات والمدارس؛ فرفع ذلك من مكانته بين أحياء المدينة، وأُطلق عليه لفترة من الزمن اسم "إسطنبول الصغرى".

في عهد الحكم العثماني، ازدهر الحيُّ وأصبح سوقُه من أهمّ أسواق المدينة. كما أنّ الحيَّ تكامل من حيث احتوائه على الجانب السَّكنيّ، وخاصة للطبقة البرجوازية؛ فرفع ذلك من مكانته بين أحياء المدينة، وأُطلق عليه لفترة من الزّمن اسم "إسطنبول الصّغرى"

حي متكامل ومليء بالذكريات

لا تكتمل زيارة سوق ساروجة دون التوقف والحديث مع بعض سكّانه ومالكي المحالّ فيه، فهولاء لديهم من الحكايات ما يصعب العثور عليها في كتب التاريخ ووثائق المتاحف، لاسيّما أكبرهم سناً وأقدمهم وجوداً أي العمّ محمد سعيد الحداد، وله اليوم من العمر سبعون عاماً، ويملك محلّ خياطة وسط السّوق، وقد وّلد وعاش طفولتَه في ساروجة قبل أن ينتقل للحياة في حيّ آخر وسط المدينة.

يتحدث الرجلُ بكلّ حبّ عن الحيّ وطبيعته، فيصفه بالحيّ التجاري والسّكني والأثريّ المتكامل وواسع الامتداد، وقد مرّ بعدّة مراحل من حيث طبيعة الحياة والعمل فيه، وأيضاً العلاقات التي تربط سكّانه بعضهم ببعض، وصولاً لحاله اليوم: سوق تجاري من أنشط أسواق المدينة، ومنازل سكنية في الأزقة المتفرعة عنه، ومعالم أثرية بعضها مغلق والبعض الآخر متاح للزيارة والاطّلاع، وطابع شبابي لا يمكن إغفاله.

"بعد عام 2005 استقطب الحيُّ بشكل خاص مئات الشباب الأجانب القادمين لدراسة اللغة العربية في دمشق، مع انخفاض إيجارات المنازل والغرف فيه. وبتواجد المركز الثقافيّ الفرنسي في حيّ البحصة المجاور، انتشرت المقاهي في ساروجة وكان روّادها من الشباب السوريين والأجانب في الدرجة الأولى، واستمرّت بالعمل بشكل نشطٍ إلى اليوم، وحتى خلال سنوات الحرب في المدينة"؛ يقول العمّ محمّد سعيد. وإضافة إلى ذلك، يشير إلى وجود العديد من الغرف والمنازل التي خصّصها رسّامون وطلّاب في كلية الفنون الجميلة لتنفيذ أعمالهم الفنية، الأمر الذي تناقص بشكل تدريجي مع مرور الأيام.

 

تتداخل هذه الحكايات، وذكريات الرّجل عن طفولته وشبابه في منزل العائلة الكبير وسط الحي، والذي تعرّض للهدم مع التوسّع العمراني في دمشق وإنشاء شارع الثورة، مع حنين لأيام لم تعد موجودة.

"كان في ولي، وكانوا يقولوا الولي سار وإجى. وصار اسم الحيّ ساروجة"

بالنسبة للعمّ السبعيني، تغيّر شكل الحيّ كثيراً، وهجَره كثيرٌ من سكّانه، حيث لم يبقَ منهم سوى النّذر اليسير، وغلب الطابع التجاري على العلاقات الإنسانية التي اعتادت أن تربط أهلَ الحيّ وحتى العاملين فيه. "كان جميع سكّان ساروجة في ما مضى يعرفون بعضهم بعضاً، وكان للحياة الاجتماعية فيه طابع حميمي وأكثر ألفة مما هو عليه اليوم، ولعلّ هذا حال كلّ المدينة"، يقول.

وخارج محلّ الخياطة الصغير، يقف رجال آخرون إلى جانب محالّهم وبضائعهم المتنوعة. يشعرون بالسّعادة عند سؤالهم عن الحيّ وتاريخه وذكرياتهم فيه، والتي لا تختلف كثيراً عما يرويه العم محمد سعيد. يضحك أحدهم عند سؤاله عن سبب تسمية الحي ويجيب: "كان في ولي، وكانوا يقولوا الولي سار وإجى. وصار اسم الحي ساروجة".

المصدر: 
رصيف 22