على الرغم من الآثار الكارثية للحرب السورية، لكنها شكلت علامة فارقة في حياة الكثير من النساء السوريات ومنعطفا تاريخيا نحو تحقيق ذواتهن التي ظلت طويلا مهمشة ورهينة إرضاء الرجل، وخلخلت الوقائع التي فرضتها الحرب فرضية أن اكتمال النساء يتحقق فقط بقيامهن بأدوار أنثوية تقليدية وبأنهن مجرد ملحقات لزوج وأولاد دون أي انخراط في أدوار أخرى.
لكن في الوقت ذاته، ارتبط عمل جزء كبير من النساء خلال الحرب بمفهوم الإعالة فقط وبدافع العوز المادي، دون الاكتراث بالدور الاستقلالي وبفكرة تحقيق الذات، فكثيرات وجدن أنفسهن بين ليلة وضحاها معيلات لأسرهن بعد وفاة الزوج أو الأب أو الأخ، فكان الأمر بالنسبة إلى بعض النساء خيارا يتيما لإنقاذ عائلاتهن من الجوع.
وبهذا المعنى فقد تراجع دور الوصاية الذكورية في سوريا خلال العقد الأخير بالتزامن مع اندلاع الحرب، لكنّ السبب لا يعود إلى تلبية الخطابات النسوية الداعية للعدالة الاجتماعية أو الإيمان بإعادة تنظيم المجتمع وتوزيع الأدوار الاجتماعية، أو رغبة عارمة برفع الاضطهاد عن النساء، إنما إلى انحدار الوضع الاقتصادي وظروف التهجير والنزوح أو تعرّض أحد ذكور العائلة لعجز كلي أو جزئي، فاضطرت النساء إلى مشاركة الأعباء المالية وتحملها كلها في كثير من الظروف، غير أنه لا يمكن نكران حقيقة أن الحاجة المادية في حدّ ذاتها، فتحت مع مرور الوقت أعينهن على أهمية العمل وعدم الاعتماد المالي الكلي على الرجل.
التحق الكثير من النساء منذ اندلاع الحرب بمهن قاسية كانت لزمن طويل حكرا على الذكور، وباتت من نصيبهن
استقطاب العاصمة
في بداية الحرب السورية استمرت العاصمة دمشق باستيعاب الباحثين عن العمل، بعد النزوح من القرى، سواء في الساحل السوري أو المنطقة الشرقية والوسطى، بوصفها المدينة السورية الأكثر أمانا مقارنة مع المدن الأخرى، لاسيما أن دمشق لطالما اكتسبت سمعة مدينة تحقيق الأحلام بالنسبة إلى قاطني المدن والأرياف النائية الذين يقصدون المدينة في ريعان شبابهم بحثا عن فرص عمل.
لكن في قلب هذا النزوح، كان للمرأة نصيب كبير حيثالتحق الكثير من النساء منذ اندلاع الحرب بمهن قاسية كانت لزمن طويل حكرا على الذكور، وباتت من نصيبهن، إذ تخلين عن مظهرهن الأنثوي لصالح لقمة العيش، فأصبحت ميادين كالبناء وقيادة سيارات الأجرة وتصليح السيارات والتمديدات الصحية والكهربائية وتخليص المعاملات التي وصل عدد الإناث فيها إلى ألفين، تتسع للنساء أكثر، في مقابل تراجع الحضور النسائي في مهنتي الطب والهندسة التقليديتين.
تجارب
في أحد مطاعم باب شرقي في دمشق، التي تنغمس ليلا في أجواء السهر والضوضاء، تتكئ جلنار على طاولة بعد يوم طويل من العمل صباحا في واحدة من المؤسسات الحكومية، لتستعد للقيام بعملها المسائي الذي بدأته قبل سبع سنوات. تعمل الشابة العشرينية منذ الساعة التاسعة مساء وحتى 12 ليلا، لتعود إلى منزلها خائرة القوى، تقول لـ "المجلة": "في البداية لم أجد عملا براتب مغر سوى هذا العمل، فاضطررت إلى قبوله، لكنني مع الوقت أحببت عملي، فالأجواء هنا مفعمة بالطاقة والتعب في آن معا، كما أن الزبائن ينفحونني بقشيشا جيدا كوني فتاة، إضافة إلى أن رب العمل يحسن معاملتي".
تشير الشابة إلى أن نظرات الناس لها تغيرت كثيرا، ففي السابق كان وجودها مستهجنا ومرفوضا لكنه انتهى إلى أن يكون مقبولا: "راتبي الصباحي يكفي لتسديد إيجار الغرفة التي أسكنها، أما راتبي في المطعم مع الإكرامية فيساعدني على تأمين احتياجاتي ومساعدة أهلي، لن أكترث بثرثرة المجتمع لأنها لن تطعمني عندما أكون جائعة".
أم محمد، امرأة أخرى التقيناها بالقرب من مستشفى المواساة بدمشق، حيث ركنت عربتها المليئة بحلويات الأطفال الملونة بحمولة تترك تشققات بيديها، بعد أن جرتها مسافة نصف ساعة، تقول لـ"لمجلة" :"أعمل على البسطة منذ قرابة ثلاث سنوات، اختفى ابني في الحرب وانقطعت أخباره كليا، وتوفي زوجي بأزمة قلبية، فلم يعد لي معيل سوى نفسي أمام ابنتيّ اللتين تعملان وتدرسان في الجامعة". وتعاني أم محمد من متاعب صحية نتيجة الوقوف لساعات طويلة، وهو ما يفاقم حالة الديسك لديها، فنصائح الطبيب بضرورة الركون إلى الراحة تعني ترك ابنتيها من دون أي دخل مادي.
في سن الرابعة والعشرين تعلمت جيهان شحذ سكين ضخمة، لتمررها بعد ذلك بمساعدة والدها على الذبيحة إيذانا بتقطيعها طازجة وبيعها للناس، تعمل الشابة في مهنة القصابة بعد وفاة شقيقها الوحيد، تقول لـ"المجلة": "كان أخي الوحيد الذي يساعد أبي في المهنة، ذكور العائلة لديهم انشغالاتهم الأخرى، فلم يبق أحد سواي، لذلك اقترحت على والدي مساعدته كي نتمكّن من الاستمرار في العمل"، تعمل الشابة مع أبيها بالتوازي مع إعطاء دروس خصوصية باللغة الإنكليزية التي توزّع أوقاتها بين الاثنين.
ارتفع معدل عمالة النساء ودخولهن سوق العمل مقارنة بالذكور إلى سبع نساء مقابل رجل واحد
ليس لدى الشابة مشكلة في التعامل مع الدماء وروائح اللحم كونها اعتادت على المشهد منذ الصغر، وهو الأمر الذي دفعها إلى مساعدة والدها دون تردد، غير أن هذا الأمر لم يجنبها نظرات الاستنكار، خاصة أن النساء تحكمهن ظروف صحية شهرية قد تمنعهن من ممارسة عملهن، تتابع جيهان حديثها: "تعرضت إلى الكثير من الانتقادات بحجة أنني امرأة لا يجوز لي تقطيع اللحم أثناء الدورة الشهرية، ببساطة لا أكترث، أحاول قدر المستطاع التزام الراحة في هذه الفترة فقط".
بمهارة عالية تقود مزكين دراجتها الكهربائية مع حذرها الشديد بإيصال الطلبية بسلام إلى الزبائن، تعمل الشابة العشرينية سائقة توصيل "دليفري" لأكثر من جهة، تقول لـ "المجلة": "أعيش مع أسرتي في دمشق، خطرت لي الفكرة عندما قرر أبي بيع دراجة أخي بعد سفره، بينما كنت أبحث عن عمل، قلت في نفسي لماذا لا أستخدمها لأغراض التوصيل"، تشجعت الشابة على هذه الخطوة كونها تجيد قيادة الدراجات التي تعلمتها من شقيقها، إلى جانب ميزة أوقات العمل القصيرة ، تعقب: "تواصلت مع إحدى مندوبات بيع الملابس عبر الإنترنت من خلال منشور على 'فيسبوك' يكتبن فيه عن حاجتهن إلى خدمة توصيل مقابل عمولة، أتقاضى على أجرة التوصيل قرابة 10 آلاف ليرة على الطلبية الواحدة وأحيانا أكثر".
انقلاب المؤشرات
في تدقيق متأنّ للمشهد الجندري العام نلاحظ تغيرات جذرية في بنية الأدوار وانقلابها، فقد أدّى غياب العنصر الذكوري خلال سنوات الحرب سواء لانشغاله بالميدان أو حالات الاختفاء القسري أو الخدمة الإلزامية وعمليات القتال، إلى غياب دوره المهيمن وإزاحة تواجده تدريجيا وتراجع صلاحياته المتناهية الموروثة تاريخيا المتحكمة بتفاصيل عيش النساء وأسلوب حياتهن، بدءا من التحكم الاقتصادي وفرض خيارات الزواج إلى منع سفر المرأة بمفردها، مع العلم أن هذا الأخير كان منقذا للحياة عبر تكبّد نساء مشقة السفر بصورة غير شرعية إلى الدول الأوروبية كلاجئة إنسانية أو سياسية، ثم قيامها بلم شمل بقية أفراد عائلتها وتحسين فرص حياتهم، وهو الدور ذاته الذي كان يمارسه الرجل منذ عقود.
كما نالت الأرياف السورية والبلدات التي تقع على هامش مدينة دمشق قسطها من التحرّر وانعتاق النساء من السلطة الذكورية، بما في ذلك الدينية، فاتجهت كثيرات إلى خلع الحجاب كنوع من التعبير عن الذات المقموعة والانفلات من القبضة الدينية، وذلك بعد نزوح سكان الأرياف المهمّشة إلى المدن التي تعتبر أكثر انفتاحا لاسيما تلك التي تشهد خليطا دينيا وطائفيا.
وبحسب إحصائية رسمية صادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية عام 2023، ارتفع معدل عمالة النساء ودخولهن سوق العمل مقارنة بالذكور إلى سبع نساء مقابل رجل واحد، وذلك نتيجة هجرة أعداد كبيرة من الذكور خارج سوريا، والتحاق الكثير منهم بالخدمة العسكرية الإلزامية، وهجرة أعداد كبيرة من منهم إلى خارج البلاد.
اتسع في خارج البلاد، خلال تلك الفترة، دور النسوية السورية الهادفة إلى توعية السوريات بحقوقهن وتمكينهن اقتصاديا
مية الرحبي
آثار الحرب
تؤثر الحروب والنزاعات على تغيير خارطة الأدوار النمطية الاجتماعية والاقتصادية والرعائية للنساء، هذا التغيير قد يحصل عبر حراك جماعي واع مخطط له ومراد تحقيقه، أو قد يكون تغييرا مفروضا على النساء نتيجة أوضاع اقتصادية اجتماعية سياسية قاهرة وضعن فيها قسرا دون رغبة منهن في تغييره.
تتحدث اختصاصية علم الاجتماع سبيت سليمان لـ"المجلة" عن الآثار السلبية للحرب على مكونات المجتمع السوري، تقول: "لا شك في أن الحرب أثرت على جميع أطياف المجتمع بما فيها المرأة التي تغيرت ظروفها الاجتماعية والاقتصادية، بعد خسارتها للزوج أو الأخ والمعيل الأساسي لها، فامتهنت مهنا كانت طويلا حكرا على الرجل".
تؤكد سليمان أن ممارسة المرأة لمهن كالفران والجزار والسائق والعتالة وضعها في مقام الرجل لتعيل أسرتها، كما سلب منها حالة الاستقرار النفسي، ومن هنا تجلت آثار الحرب السلبية على استقرار المردود الاقتصادي والاجتماعي في حياة الأسرة السورية، فبعد أن كانت المرأة تتولى المهام المنزلية والعناية بأفراد الأسرة وتقديم العون المالي البسيط للزوج تحولت فجأة إلى المعيل الوحيد والأساسي، مما وضعها تحت ضغوط جسدية ونفسية واقتصادية جمة.