سلك الأدب مسلك الاحتجاج وعدم السكوت أمام الأحداث التي تهز حياة الإنسان، وتسعى ليس فقط لنقل أوجاعه، بل لاقتراح حلول. منذ أدب جول فيرن إلى جان بول سارتر، كان الأدب واجهة لمخاطبة الوعي وإيقاظ الضمائر والعقول لمواجهة الأخطار التي تتربص بالإنسان، بدءا بغرائزه الشرهة وأطماعه الغريبة إلى كوارث الطبيعة، التي في الغالب حين تحدث تكسر جبروته وتقلص من غروره وتعيده لحجمه المتناهي في الصغر أمام عظمة الخالق.
لا يمكن إنكار بُعْد الكارثة المرتبط بالأدب، فالشرور بأنواعها يكون لها التأثير الأكبر في الذاكرة الإنسانية، ولهذا تؤخذ بعين الاعتبار لبناء قصّة جيدة، على اختلاف شكل البناء، شعرا كان أم رواية أم قصة قصيرة أم مسرحية.
وقد أشرت في مقالات سابقة إلى مدى تأثير الأوبئة في الأدب، كعنصر مُلهم لكتابة روائع مثل «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، أو «الطاعون» لكامو. لكن حفر الأدب للكارثة في الوجدان الإنساني يتجاوز مجرّد شهادة أو استحضار للحدث، فغالبا ما يتحوّل هذا العمل عنصرا أساسيا في دراسات كثيرة تاريخية واجتماعية وثقافية لاستخلاص التغيرات والتحولات التي تشهدها المجتمعات بعد كل كارثة طبيعية بحكم الأحجام الضخمة التي تبسط بها قوّتها فتمحي مرحلة لتولد مرحلة جديدة في حياة المجموعات الإنسانية.
يُعيد الزلزال الأخير الذي ضرب جزءا من تركيا وسوريا، وشعر به أكثر من بلد عربي طريقة تفسير الكوارث الطبيعية من طرف المجتمع بإيجاد صلة وثيقة بينها وبين الإيمان الديني، إذ يعتبرها دائما تعبيرا عن الغضب الرّباني لمعاقبة الخاطئين من البشر، وكلما كان حجم الخطايا كبيرا، ازداد حجم الكارثة.
استحضر هنا كتاب «المنازل والديار» لأسامة بن منقذ الذي ألّفه بعد حدوث زلزال قوي سنة 652 فأتى على حصن شيْزَر بمن فيه من أبناء عمومته وأقاربه، جاء الكتاب في نحو خمسمئة صفحة ضمت مراثيه لكل الذين فقدهم وأشعارا أخرى لمن جايلهم. ومن بين ما ورد فيه قوله:
ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا … هل ما ترى تارك للعين إنسانا
لم يترك الدّهر لي من بعد فقدهم … قلبا أجشّمه صبرا وسلوانا
فلو رأوني قالوا مات أسعدنا … وعاش للهم والأحزان أشقانا
بادوا جميعا وما شادوا فوا عجبا … للخطب أهلك عُمَّارا وعمرانا
هذي قصورهم أمست قبورَهم … كذاك كانوا بها من قبل سكّانا
وهي بكائية طويلة تروي قصة أمراء بني منقذ، الذين سيطروا على حصن شيْزَر وأسسوا إمارتهم التي حاربوا من أجلها وظلّت قائمة إلى أن أتى زلزال قوي أفنى العائلة كلها، ولم يبق منها إلاّ الفارس الشاعر أسامة بن منقذ شاهدا على ما حدث، مختصرا قصة حصن وجاه وسلطة، انتهت بضربة من عدو غير متوقع خرج من عقر الأرض التي استولى عليها بنو منقذ ببسالتهم وسيوفهم. يعتبر كتاب أسامة بن منقذ مرجعا أدبيا مهما للدارسين والباحثين إلى اليوم، وإن كان أيضا وثيقة تاريخية مهمة تروي تاريخ الحصن، وجزءا مهما من تاريخ سوريا القديمة.
في الفاتح من نوفمبر عام 1755 اهتزّت الأرض في لشبونة فمات جرّاء تلك الهزة ثلاثون ألف شخص، فكتب فولتير قصيدته الشهيرة «قصيدة حول كارثة لشبونة» فقد أفجعته تلك الكارثة وظلّت تقرع في رأسه فترة طويلة، رغم أنها لم تحدث في فرنسا، لكنّها بالنسبة له كانت انتقاما من الله من البشر الذين عاثوا في الأرض فسادا، وهذا لا يخالف نظرة المجتمع كله آنذاك للظواهر الطبيعية الغاضبة غير المفهومة، لكن أيضا لم يختلف فولتير عن الشعراء الذين يرون مآسي الإنسان واحدة في كل مكان، فشاعر النيل حافظ إبراهيم تأثر كثيرا بالزلزال الذي ضرب مسينا الإيطالية عام 1908 فكتب قصيدة من تسعة وخمسين بيتا، ومن بين ما ورد فيها قوله:
ما لمسين عوجلت في صباها … ودعاها من الردى داعيان
خسفت، ثم أغرقت، ثم بادت … قضى الأمر كله في ثواني
وأتى أمرها فأضحت كأن لم … تكُ بالأمس زينة البلدان
ومثله السياب الذي كتب مجموعته «المعبد الغريق» متأثرا بغرق معبد بوذي في شبه جزيرة ملايو في بحيرة شيني، التي تعتبر اليوم جزءا من ماليزيا حاليا، إثر انفجار بركاني خلخل المدينة كلها وأغرقها بالرماد، كان الموت يعشش في قلب الشاعر ويتمناه بشوق الفاقد للأمل في العيش، فتقاطعت أبيات قصائده الخمسة والعشرون التي تضمنتها المجموعة، بكل الرؤى الغريبة التي تملّكته بين معبد غريق في آسيا، ونفسه الغريقة في أحزان كثيرة منها افتقاده للحب في حياته، وهو أكثر شيء دمّره نفسيا، وكان سببا ربما في موته المبكر.
لكن يبدو لي من وجهة نظر شخصية محضة أن أكثر كتاب يمكن أن يقرأ في هذه الفترة، خاصة لمن عاشوا صدمة الزلزال وفواجعه، هو مجموعة قصصية بعنوان «ما بعد الزلزال» للروائي الياباني هاروكي موراكامي، يمكن اعتبارها رواية بما أنها التي ترصد «زلزال كوبي» الذي حدث سنة 1995 من خلال ستة أشخاص، بحيث يروي حكاية كل شخص على حدة، لكنه في النهاية يشرح بأسلوبه الجميل كيف استمرّت الهزّات في قلوب اليابانيين، رغم مرور شهر على الكارثة. وصف الكاتب زلازل داخلية بدأت تحدث مباشرة في خبايا النفوس، فقد أغرقت الحياة اليومية سريعة الإيقاع في اليابان الإنسان الياباني بتراكمات حوّلته لما يشبه آلة مبرمجة، فأتى الزلزال ليهشّم صورة الحياة المكتملة والجميلة التي تنبض على إيقاع مألوف، ليتغيّر كل شيء في ثوان عديدة. «لامس موراكامي برقة لا نهائية الخلل الداخلي الموجود في كل كائن، مبرزا شرائح الحياة الغامضة لكل فرد، واندلاع شعلة التشبث بالحياة من كل ذلك الخراب في شكل غريب».
في القصة الأولى يقضي زوج وزوجته خمسة أيام أمام التلفزيون يتابعان تفاصيل الكارثة، تساءلت الزوجة بينها وبين نفسها ماذا لو انتهت فجأة خلال هزة مماثلة؟ فقد تشبثت خلال زواجها برجل أجوف جعلها تقف في نقطة الصفر، دون أن تشعر فعليا بالحياة، فتتخذ قرارا بتركه والعودة إلى أمها. في قصة أخرى يتحوّل رجل غريب إلى بطل خارق، ويدفعه ضفدع عملاق إلى قتال دودة أرض متوحشة تعيش في أحشاء الأرض، وحين تغضب تحفر وتحدث زلازل قوية لا مهرب منها. قد يعتقد قارئ هذا الكتاب أن هذه القصص غامضة ومعقّدة، لكنه أسلوب موراكامي الذي عهدناه في أعمال أخرى مثل «مطاردة الخراف الجامحة» و «الغابة النرويجية» و»كافكا على الشاطئ».
يعلّمنا هذا الكاتب الفذ أن النفس البشرية تشبه هذا الكوكب أيضا، وأن ما يحدث عليها له تداعيات في داخله، أما اختياره لزلزال كوبي فلأنه ترك في قلبه أثرا عميقا، وأراد معالجة الأمر بطريقته، وهو يدخل أعماق هذا الكائن الجبار حينا والضعيف جدا أحيانا أخرى بحثا عن مركز ثقله واتزانه. يجعل الحقيقة قريبة جدا منا حدّ ملامسة أنوفنا، فيطرح علينا سؤالا صاعقا: «كيف نفصل ما حدث للآخرين عمّا يحدث لنا؟ وكيف نتحمّل الشعور بالوحدة والعجز على كوكب كبير جدا يعجُّ بالسكان؟ ثم كيف يمكننا أن ننجو من كل هذا؟
لا نهاية محدّدة لهذه القصص رغم اشتراكها في المحنة ذاتها، كل النهايات مفتوحة وتُشرِك القارئ في خلق ما يناسبه من نهايات. وكلها تتأثر بزلزال كوبي الذي راح ضحيته أكثر من ستة آلاف شخص، وكلها تعيش هزّاتها الخاصة. وكأن موراكامي ينبهنا إلى أن الكارثة مهما كانت بعيدة عنّا، إلا أنها تصنع المشترك الإنساني الذي لا مفر منه، وهذا ما نعيشه يوميا منذ اهتزّت الأرض في تركيا وسوريا، مع يقظة مفاجئة في الوعي، وأمنية ليتها تتحقق بإعادة تنظيم الوجود وتغيير مسارات الحياة نحو مستقبل آمن خال من الحروب والنزاعات السياسية، وحتى من الخلافات الفردية الصغيرة التافهة التي تحوّل الإنسان إلى كائن متوحش في غفلة منه.