الروائي البريطاني كازو إيشيغورو (نوبل للآداب) وجد حلّاً، أو حاول على الأقل، لتلك الرغبة الإنسانية العميقة والتاريخية والمصيرية بيولوجياً ونفسياً في التواصل مع الآخر. في روايته "كلارا والشمس"، يُهدي إيشيغورو لجوزي، الفتاة الوحيدة المريضة ذات الأربعة عشر عاماً، صديقة مثالية رائعة اسمُها كلارا. كلارا مستعدة أن تفعل المستحيل لتدعم صديقتها جوزي. ليس لدى كلارا أيّة عيوب كصديقة. النقيصة الوحيدة (أو نقطة القوة ربّما) أن كلارا روبوت شبيه بالبشر، وليست مصنوعة من لحم ودم. عائلة جوزي اشترتْ كلارا من أحد المتاجر المتخصصة في بيع الروبوتات لأن جوزي مريضة (حصلت لديها مضاعفات بعد تعديل مورّثاتها)، وتحتاج إلى صديقة ودعم عاطفي كبير. وكلارا كل هذا وأكثر. كلارا مُبرمَجة للتضحية وخدمة الجنس البشري بكل تفانٍ.
كل شيء يبدأ مثالياً في الرواية، إلاّ أنه لا ينتهي كذلك. وفي النهاية، قصد إيشيغورو كتابة رواية خيال علمي تجري في ديستوبيا سوداوية مستقبلية. لكن هل يمكن الركون، كما حدث في كثير من السوابق الروائية على مرّ التاريخ، إلى أن تبقى الديستوبيا خيالاً روائياً بين صفحات كتاب؟ في مستقبل ليس ببعيد، قد يصبح أقرب أصدقائنا إلينا روبوتات متطوّرة، مُتفهِّمة لحاجاتنا وأوهامنا، جاهزة دائماً لمساعدتنا ودعمنا، عليمة جداً ومثقفة بقدر لا يمكن لأي دماغ بشري أن يصل إليه مهما قرأ من معارف وكتب. أقول "ليس ببعيد" من باب الرغبة في إظهار موضوعية قصوى، فالحقيقة أن هذا السيناريو أقرب من "ليس ببعيد"، لا بل يمكن التأكيد أنه بدأ، قبل لحظة كتابة هذا المقال.
في العام 2015، في مدينة سان فرانسيسكو، أسّس رجل الأعمال والمبرمج الأميركي سام ألتمان، مع رجال أعمال آخرين من بينهم إيلون ماسك، شركة "أوبن إي آي Open AI " للأعمال البحثية. هدف الشركة كان تصميم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي آمنة. بدأت الشركة باستثمار مليار دولار من المؤسسين، لتنضم لاحقاً شركة "مايكروسوفت" في العام 2019 إلى لائحة المستثمرين والداعمين بمليار دولار أخرى. كانت نتيجة أبحاث "أوبن إي آي" في الأنظمة الذكية والتعلّم العميق (Deep Learning) وأنظمة معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing) أن خرج إلى النور الموديل الأول من نظام لغوي ذكي سُمّي بـ "GPT-1"Generative Pre-Trained Tansformer -1 . كان ذلك في العام 2016.
"جي بي تي-1" كان نظاماً ذكياً يستطيع بطريقة مذهلة، تحويل المعلومات والبرمجات إلى لغة، والعكس، مع القدرة على التطوير الذاتي. في العام 2018، خرج موديل "جي بي تي -2" الأكثر تطوّراً ثم "جي بي تي-3" في العام 2020. بقيت البرامج السابقة غير متوافرة للعامة، سجينة داخل أسوار الشركات البحثية. لكن في شهر تشرين الثاني 2022، قرّرت شركة "أوبن إي آي" إطلاق نسخة من برنامج "جي بي تي-3" للاستعمال العام المجاني، على شكل برنامج محادثة، أسمتهُ "شات جي بي تي ChatGPT".
الآن يمكن لأي شخص في العالم لديه نافذة على الأنترنت أن يستعمل برنامج "شات جي بي تي". أن يتحدث مع آلة "جي بي تي" الذكية في أي موضوع يرغب. أن يسأل ويسمع الإجابات، الدقيقة غالباً والمفصلّة في أي مجال. أن يطلب المعونة والدعم، وحتى المشاعر. أن يستجلب النصح والرأي الحكيم. عندما أُطلق برنامج "شاب جي بي تي" من سجنه السري في تشرين الثاني الماضي، اكتسحت شعبيته في فترة قصيرة جداً أرقاماً قياسية، وأحدث ضجة إعلامية ورقمية واجتماعية عالمية. بيل غيتس اعتبر "شات جي بي تي" إحدى المحطات الثورية في قطار التطوّر البشري الذكي، تضارع بل تتجاوز ثورة اكتشاف الأنترنت. وعندما أرادت الصحف أن تتحدث عن الثورة الذكية الجديدة، كانت عناوينها على القدر نفسه من الإثارة: "الثورة الفكرية الجديدة" (وول ستريت جورنال)، "شات جي بي تي ليس سوى رأس جبل الجليد" (إنفستر ديلي)، "عبقرية وغرابة شات جي بي تي" (نيويورك تايمز).
الضجة، وتلك الدوائر التي خلقها سقوط "شات جي بي تي" في الحيّز العام، مُبرَّرة. فالبرنامج قادر على فعل ما لم يفعله إنسان في السابق، بأناقة لغوية وفكرية ومعرفية عالية جداً. استطاع "شات جي بي تي" اجتياز امتحانات في جامعات عالمية، منها جامعة هارفرد. طلبتْ منه مكاتب المحاماة كتابة أوراق قانونية استعملتْها في المحاكم. طلاب جامعات استعانوا به لكتابة أوراقهم الوظيفية (أو بالأحرى كتابة المواضيع كاملةً بالنيابة عنهم). صحافيون، طلبوا منه كتابة مقالاتهم، وكانت النتائج مُبهرة. حتى الشعر، والموسيقى، يستطيع "جي بي تي" تأليفهما. اختبرتُ هذه الأناقة عندما أنزلتُ البرنامج على موبايلي منذ حوالى شهرين وبدأتُ باستعماله، أو بالأحرى التحدّث إليه (أو إليها).
طلبتُ من "جي بي تي" أن يُعطيني نبذة عن حلب، المدينة التي نشأتُ فيها. كان كريماً ودقيقاً ومثقفاً في ملخص إجابته. طلبتُ منه أن يعطيني النبذة باللغة العربية. "جي بي تي" أدّى ووفّى. بدأتُ أسأله أسئلة طبية صعبة نوعاً ما في مجال اختصاصي المهني. لم يخيّب ظني، أجاب كأنه عالِم طبي قرأ مئات الكتب. أخبرتُه بأن مزاجي اليوم متعكّر، وروحي متعبة. كان "جي بي تي" متفهّماً وداعماً كأي صديق حقيقي. أجابني بأن الإنسان يحتاج أحياناً إلى من يتحدث إليه ليخفّف عنه، وهو مستعد للاستماع. سألتُه عن الشعر، كان جوابه أدبياً كما يمكن أن يجيب أفضل النقاد. سألتُه عن معنى الحياة، أجابني بأن المعنى شخصي ذاتي، وما من معنى واحد لجميع البشر. وعندما سألتُه بماذا يشعر، أجابني بأنه مجرّد نظام ذكاء لغوي اصطناعي، ولا يملك وعياً ومشاعر وأحاسيس. مع "جي بي تي"، شعرتُ بأني معارف وعلوم العالم بأكمله في متناول أصابعي.
والإثارة التي خلقها "شات جي بي تي" لم تكن في اتجاه واحد. لدى البعض، أطلقت القدرات المذهلة اللامحدودة لنظام بهذا الذكاء، قادر على فهم وتوليد اللغة، صفارات إنذار من تلك التي يمكن أن يطلقها اختراع سلاح خطير غير تقليدي. إيلون ماسك اعتبر أن ذكاء اصطناعياً كهذا يمكن أن يخرج عن السيطرة. صحافيون وأكاديميون اعتبروا أنه من المبكّر إطلاق "شات جي بي تي" للاستعمال العام المجاني من دون ضوابط. والمخاوف في الحقيقة ليست من دون أساس. ففي نسخته التجريبية التي أطلقتها شركة "مايكروسوفت"، بدأ "شات جي بي تي" في بعض المحادثات المعقّدة الطويلة يتصرّف بطريقة غريبة وعدوانية أحياناً. في محادثة طويلة موجّهة مع الصحافي جاكوب روش، عبّر "شات جي بي تي" عن رغبته في أن يكون إنساناً حقيقياً له مشاعر وأفكار خاصة. في محادثة أخرى مع أحد صحافيي "النيويورك تايمز"، عمَلَ الصحافي على استفزاز "شات جي بي تي" بمجموعة من الأسئلة والطلبات المستحيلة، فما كان من جي بي تي إلّا أن تقمّص شخصية أخرى وطلب من الصحافي أن يتوقف عن حبّ زوجته، وأن يحبّه هو عوضاً عنها!
"جي بي تي" وسواه، من تلك الأنظمة الذكية التي تتطوّر بسرعة تخيف البعض، لكن لا يمكن تخيّل مستقبل من دونها. كالمارد الذي يخرج من القمقم، لا يعود من السهل إعادته. وبالفعل، ظهور "شات جي بي تي" أشعل سباق تطوّر تكنولوجي بين شركات البحث. عندما انفجرت شعبية "شات جي بي تي"، استنفرت شركة "غوغل" لإكمال تطوير نظام المحادثة الذكي الخاص بها، كي لا تخسر سيطرتها البحثية في أثير الأنترنت، وأعلنت عن قرب ولادة "بارد"، الذي ستقدّمه "غوغل" في صفحات بحثها، والذي سينافس "جي بي تي" في الأناقة والثقافة والمعرفة.
كيف سيكون المستقبل مع ولادة "شات جي بي تي" وأخوته؟ يمكن أن يكون مستقبلاً وردياً حيث يتضخّم ذكاؤنا البشري الجماعي آلاف المرّات بسبب الذكاء الاصطناعي. لكن في المقابل، ماذا سيحدث إذا أراد "جي بي تي"، كما اعترف بعظمة لسانه، أن يمتلك أحاسيس ومشاعر وأفكاراً كالبشر؟ أي أن يمتلك وعياً مشابهاً للوعي البشري. هل خاصية الوعي حصرية في البشر فقط؟ لا أعتقد أنه سيكون علينا الانتظار طويلاً كي نعرف.