تخطي إلى المحتوى
ماذا يريد القارئ الجديد؟ ماذا يريد القارئ الجديد؟ > ماذا يريد القارئ الجديد؟

ماذا يريد القارئ الجديد؟

فجأة برز اسم شابّة من الجزائر في عالم الرواية، لم يهزّ فرنسا فقط، بل الجزائر والعالم العربي وعالم القرّاء أجمع. كسرت هذه الشابة ابنة الأربع والعشرين سنة رقما قياسيا كان بحوزة كتب وكُتّاب سبقوها شهرة وتجربة وعمرا.
وفي مقال جميل للكاتبة اللبنانية كاتيا طويل، نقرأ أن «نجاح أي عمل أو نص إنّما هو محض مصادفة. حتى أخبر الناشرين يعترفون بعجزهم عن التحكم بنسب المبيعات، فالقرّاء كائنات غير متوقعة تتصرف وتشتري وتقرأ وتحب، وفق ذائقة وظروف مختلفة ومتنوعة وغير متوقعة».
سارة ريفنس إذن دخلت هذا العالم الصعب باللغة الفرنسية، من باب ما يسمى بالرواية السوداء. وقد ركّزت كاتبة المقال ذات التكوين الفرنكفوني والإبداع باللغة العربية، على الأرقام المذهلة التي حققتها ريفنس، سواء على مستوى المبيعات أو عدد اللغات التي ترجمت إليها في وقت قياسي، أو الأرباح التي حققتها والتي فاقت 3.5 مليون يورو في فرنسا وحدها.
الرواية التي تحمل عنوان «الرّهينة» وصدرت في جزئين، لم تعجب أغلب الأدباء الذين تربّعوا على عرش الرواية لعقود من الزّمن، وأعتقد أن الكاتبة هوجمت قبل أن يلقي هؤلاء نظرة على نوع كتابتها، وما عودتي لكاتيا طويل إلاّ لثقتي في قدرتها على فكّ النص وقراءته بموضوعية أكثر كونها كاتبة شابّة، تتلمذت على نصوص العمالقة، لكنّها ابنة هذا العصر بامتياز.
لكنّ مقالي في الحقيقة لا يتعلّق بسارة ريفنس نفسها، بل بقارئ جديد لا نعرفه ككُتّاب ننتمي لجيل آخر. وربّما يحق لي أن أسأل هل حظِيَ جيلي بقرّاء فعلا؟ وما نوع الأدب الذي كان يريده؟ لأن الأجيال الجديدة لم تعد تتحكّم فيها المسارات الأيديولوجية التي تحكّمت في أذواقنا على أيامنا. إذ يبدو لي أنّنا قرأنا الأدب الروسي المترجم وأدب أمريكا اللاتينية، وأهملنا أدبنا لأننا كنّا مشحونين بأفكار بُرمِجنا عليها، وهذه مجرّد وجهة نظر قابلة للنقاش طبعا، من جهة نظر أخرى فنحن تربّينا على أسماء كبرت وكبرنا معها، وظلّت تحتل الساحة الأدبية حتى بعد وفاة بعضها، وتعودنا على تمسُّكِ بعضها الآخر بواجهة السّاحة الأدبية، وهذا إن كان له تأثير فهو حتما الملل من غرْفِ الأفكار نفسها بالأسلوب نفسه، فيما كان وعينا يتطوّر مع تقدمنا في العمر حتى خرجنا من تلك العباءة التي ألبسناها غصبا عنّا.
فهل هذا ما حدث فعلا؟ حتى أصبح أشهر كاتب عربي قد يصل بطبعات رواية من روايته النّاجحة إلى الطبعة الثلاثين مثلا، لكن يستحيل أن تتجاوز الطبعة الواحدة ألف نسخة! وكذب من يقول عكس ذلك. هذا غير متاهات القرصنة التي تجعل النّاشر والكاتب سواء، يفقد الكثير من حقوقه ومعنوياته وروحه الإبداعية وهو يصارع قراصنة الأدب، فينقلب مزاجه كله وينعكس ذلك على كل نص يكتبه في ما بعد.
بين قارئنا الذي عرف الهزّات التاريخية الكبرى للعالم العربي، وقارئ اليوم الذي يعتبرها مجرّد وهم، ويعيش «الأكشن» على طريقته من خلال ألعابه الإلكترونية، وتسونامي مواقع التواصل الاجتماعي، وما تحمله الدراما التلفزيونية والسينمائية من كمية العنف والتخويف والتّهويل والخيال العلمي، كلها أسباب أخذته إلى خيارات مختلفة عن خياراتنا، سواء في قراءاته أو في طريقة حياته، هذا إلى جانب إثارة مخيلته لرؤية تختلف عن رؤيتنا للإبداع نفسه.
سارة ريفنس الظّاهرة، تشبه ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ، وغيرهما في الغرب، بحيث يقدّمون نصّا بلغة سهلة يعتمد ابتكار عناصر الإثارة في شتى أنواعها. وهذا يعني أنهم لا يكتبون من منطلق الأدب الرفيع المستوى، بل هم حكّاؤون ممتازون، تبْرعُ مخيلتهم في نسج أحداث تشدُّ القارئ لمعرفة مصير شخصياتهم. أين يجب أن نبحث عن تفسير لهذا النّجاح السّاحق والمفاجئ حتى لصاحبه؟ هل هو ضمان للجودة؟ أم يجب أن نسلِّم بمقولة «النجاح دائما ما يكون ذا جودة رديئة» وهذا يعني أن الانتشار والجماهيرية يأتيان من مقاييس أخرى بعيدة تماما عن الإتقان والجودة!

إنّه شيء يشبه المعجزة، أو الحظ في ساعة الذروة السرية، أو في غرابة الظّاهرة في حدِّ ذاتها دون أيّ تفسيرات. فكرة «الكتاب الأكثر مبيعا» بدأت في أواخر القرن التاسع عشر في بعض دور النشر الغربية خاصة في أمريكا وباريس، قامت على أهمية البيع بالجملة، بحيث ذهبت في الاستثمار في تطوير كتب التعليم عالية الجودة للمدارس والجامعات، فكانت نسبة الطلبات على أي كتاب هي التي تحدّد رفعه لمرتبة «الأكثر مبيعا».

أمّا أول من ارتقى هذه المرتبة هي الكاتبة الأمريكية هارييت بيشر ستو بروايتها «كوخ العم توم» التي نشرتها أولا على شكل مسلسل في إحدى الدوريات المناهضة لعقوبة الإعدام. أدركت ستو أهمية ما كتبته وقيمته، بسبب إقبال القرّاء على قصّتها المسلسلة، فسارعت إلى تسجيل حقوق النّشر الخاصة بالقصة في محكمة المقاطعة التي تقطن فيها. طبعت الرواية أول مرة على شكل كتاب عام 1852وباعت في أول يوم ثلاثة آلاف نسخة، وقد أدّى الإقبال المجنون على الرّواية آنذاك إلى تشغيل ثماني مطابع دون انقطاع لطبع مزيد من النسخ، حتى باعت على مدى السنة الأولى 300 ألف نسخة. تسابق المترجمون إلى ترجمة العمل في أوروبا، وأصبح حديث النّاس في كل مكان، بل إن مجرّد عدم قراءته من أحدهم يبدو غريبا. الذين بحثوا في أسباب نجاح الكتاب، ربطوه بالحدث العالمي المرتبط باهتمامات الناس آنذاك وهو العبودية، ووصفه النقاد بالكتاب المناسب في الوقت المناسب، فقد كانت تلك الفترة منعرجا تاريخيا عظيما للتغيرات الكبرى.

هل ينطبق هذا القول على ما حققته هذه الشابة الجزائرية؟ بالنسبة لي نعم في بعض الأمور، فالحدث العام الذي هو حديث الناس في كل العالم هو «العنف، والأزمة الاقتصادية، وعودة العبودية الجديدة بأشكال متنوعة» وهذا، كما قرأت في مواقع كثيرة هو العمود الفقري لنص الكاتبة الناشئة الناجحة التي حققت أول «بيست سيلر» لها. في انتظار ترجمته العربية التي حتما ستتم في أسرع وقت، سيَتكشَّف لنا أول سرٍّ لهذا النجاح السّاحق عن أدب اللاّ قضية، أدب مفرغ من القضايا الكبرى التي كنّا نتغنّى بها، وبقارئ صنعته العولمة، لا يهم أن يكون غربيا أو عربيا، ففي الغالب هو قارئ عالمي، لا يهمّه الوطن الذي ينتمي إليه، فهو ابن كوكب الأرض، والبلد الذي يمنحه عملا وحياة جيدة فيصبح بلده بكل سهولة. هذا القارئ سنبدأ بالتعرُّف عليه بدهشة، قبل أن يطوينا العمر ويصبح هو المستلم لزمام الأمور، قارئ يرفض «البكائيات الأدبية» التي تربينا عليها، وهو يصرخ في وجوهنا بطريقته الهادئة أن علينا أن نكبر، ولا نتوقف عند شعر محمود درويش ونزار قباني، وروايات الطيب صالح وسهيل إدريس وحنّا مينا، هذا القارئ لا تصدمه رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ولا الحي اللاتيني» ولا «الياطر». لقد أصبح الشمال والجنوب في متناول يده، واللغة العالمية أصبحت تغزو لسانه بالتي هي أنعم، فلم يعد بحاجة لبرامج دراسية تطوّر لغته الأم، لقد اختار لغته وانتماءه وخرج من «جلباب أبيه».
علينا أن نسأل أنفسنا إذن هل علينا أن نتقبّل القارئ الجديد بمقاييسه الجديدة؟ ونفهم ما يريد، أم نحاربه ونحاول إعادته إلى «حظيرتنا» القديمة؟ أعتذر سلفا إن استعملت كلمة «حظيرة» لوصف جيلي والأجيال السابقة لي، فقد شعرت بنوع التسلّط والتّعالي من طرفنا، ونحن نهزأ من هذا القارئ الجديد الذي بدأ ببناء مملكته بعيدا عن حيّنا القديم. أليس القارئ هو من يعيد إنتاج النص فيقرّر مصيره؟ لماذا إذن لا نحاول فهم جيل جديد من القرّاء يدخل بنا إلى حقبة جديدة من التاريخ الإنساني، حتى إن كنّا مجرّد «دقّة قديمة» بالنسبة له؟

المصدر : القدس العربي