في رواية مترجمة من الأدب الروسي، أنجزها أحد المترجمين الجدد، لفتت نظري عبارة غزل أطلقها طبيب في النص في وجه مريضة من زبائنه، كان معجبا بها كما يبدو.كانت عبارة غاية في المحلية العربية، بمعنى أنها لا يمكن أن تكون كذلك في لغة النص الأصلية، وإنما هي من اجتهاد المترجم، الذي لا بد استوعب النص، وقرر أن يساهم ببعض المجهود في النسخة العربية، خاصة أن الذي سيقرأ الترجمة، هو قارئ عربي، قد يكون معتادا على مثل هذا الغزل، الذي نسمعه كلنا في شوارعنا، ووسط البيئات المختلفة التي نعيش فيها.
مؤكد أن الترجمة علم راسخ، وقديم، ولطالما قرأنا أن كتبا ترجمت قديما عن لغات مختلفة، مثل الصينية والفارسية، وتم تداولها، مثل كتاب «كليلة ودمنة» للحكيم بيدبا، وفي العصر الحديث تطورت الترجمة بطريقة مذهلة، وظهر آلاف أحبوا هذا العلم في مختلف أنحاء العالم، لذلك تجد كتبا تترجم باستمرار من لغات إلى لغات أخرى، ويظهر محبون لهذه الكتب، يناقشونها في المنتديات بكل رشاقة، وقد تفاجأ ككاتب أن هناك من ترجم لك كتابا إلى الصينية والمقدونية، وتعرف حينها أن قراء الكتب في كل الدنيا هم قراء الكتب أنفسهم، وممكن أن تقرأ في لغة تنقل إليها، كما تقرأ في لغتك.
وفي حواري مع مترجمين غير عرب، أحبوا ترجمة الأدب العربي إلى لغاتهم، دائما ما أعثر على شغف غريب، فالمترجم يحب النص أولا، ثم يسعى إلى نقله بذلك الشغف إلى لغته التي يترجم إليها، وكثيرون يقولون إنهم لا يقومون بترجمة أي كتاب يوكل إليهم ما لم يحسوا بالشغف تجاهه، وإذا نظرنا مثلا إلى اختيارات المترجمة الإيطالية القديرة فدريكا بستونو، أو المترجم الأمريكي المخضرم وليام هتشنز، نجد ليس ترجمة فقط، لكن سعيا حثيثا لأن يحب القارئ البعيد هذه النصوص التي أحبها المترجم. هنا لا بد من العودة لمسألة التصرف، فكما أن الترجمة علم، كما ذكرت، إلا أنها ليست علما جامدا، يخضع للنقل الحرفي للمعاني، إنما يحتمل أن يتصرف المترجم في كثير من الأحيان، من أجل إيصال معنى جميل أو ساحر، أو يتوافق مع القارئ الذي ينقل إليه الكتاب، وما زلت حتى الآن لا أتصور كيف تم نقل رواية مثل 366 فيها كم هائل من الصور الشعرية إلى الصينية، لكن مؤكد أن المترجمة، تصرفت دون إخلال بالنص. فالشعر ينقل ويوجد شعراء كثيرون من أمثال محمود درويش وأدونيس نقلت أشعارهم إلى شتى اللغات، ووصلت أصواتهم قوية ونافذة.
بالنسبة للترجمة إلى العربية، وهذه حرفة كانت في ما مضى حكرا على أشخاص قليلين، درسوا لغات مختلفة في بلاد عديدة، أو درسوا في كليات عربية في قسم اللغات، وبعضهم أجاد عمله بلا شك، ولدينا أمثلة متعددة من أجيال مختلفة، وأزعم لولا هؤلاء الناس المجتهدين لما استطعنا الإلمام بكثير من الآداب والمعارف الأخرى، التي تذوقناها وتعلمنا منها، ولظلت بعض الأسماء البارزة هنا وهناك، مجرد أسماء، للذين لا يجيدون القراءة بلغة أخرى غير العربية، وإن كان كل المتعلمين تقريبا حتى في الكليات العلمية مثل الطب والهندسة، يمكنهم القراءة بالإنكليزية أو الفرنسية، أيضا ما تركه الاستعمار في بعض دولنا من استخدام للغته في مدارسنا وحياتنا اليومية حتى بعد أن رحل، وهذا موضوع آخر.
نعم، هناك من قدم لنا خدمات جليلة إذن بإطلاعنا على نتاج العالم، وكلنا استمتعنا بما نقله صالح علماني من أدب إسباني ولاتيني مبهر، وقلت مرة عنه إنه لا يترجم، لكن يكتب النسخة العربية لذلك الأدب، فقد كانت له بصمة مبدعة وحقيقية، وهذا نموذج للمترجم الواعي، القادر على التصرف، حين ينقل للعربية، وأعتقد أنه لولا الانشغال الدائم، لكتب صالح روايته الخاصة، بواقعية سحرية عربية، وهو ما ذكره لي مرة في لقاء في الكويت كما أذكر.
المترجم خالد الجبيلي، وهذا رجل متمكن في مجاله، وعن طريقه قرأنا كتبا عظيمة لوليام فوكنر وسلمان رشدي، وإيريش بلوم وغيرهم، وأظنه في سبيل أن يستقيم المعنى لدينا كعرب، لا بد من بعض التصرف الجيد، في نقل النصوص، فالمتعة التي يمكن الحصول عليها من ترجمات أنجزها، قد تكون هي نفسها التي يمكن الحصول عليها في النصوص الأصلية، كذلك حين تقرأ بول أوستر مثلا، مترجما إلى العربية بواسطة زميلنا عبد المقصود عبد الكريم، ستحس أنه بول أوستر الحقيقي وليس منقولا إلى لغة أخرى، وعبد المقصود طبيب، لكن هنا نتحدث عن الشغف الذي جعله مترجما من طراز رفيع، إضافة لكونه شاعرا، ما يضفي على المعنى دفقة سحرية مطلوبة.
أنا من محبي الكاتب الإسباني الراحل زافون، وكنت قرأت روايته «ظل الريح» حتى قبل أن تترجم للعربية، وأحببتها، وقرأت بعدها «لعبة الملاك» و»سجين السماء» وهنا لا بد من أن أشير إلى اجتهادات صديقنا المترجم معاوية عبد المجيد، فقد ترجم أعمالا ضخمة، تستهلك الوقت، وكانت ترجمات عظيمة، ومغرية بمتابعة ما يقدمه.
كثيرون طبعا موجودون في هذا المجال، وظهر الآن مترجمون جدد، يسيرون في درب الإبداع في الترجمة، وبالطبع لا يمكنك أن تتابع الجميع، لكن ستحاول أن تدرك التميز عند مترجمة مثل إيمان الأسعد، وغيرها من الذين طرقوا المجال مؤخرا.
ما ذكرته كما قلت أمثلة، والحديث أصلا كان عن التصرف حين تنقل الأعمال الأدبية من لغة إلى لغة، ذلك التصرف الإبداعي الذي لا يخل بالنص، وإلا ستكون الترجمة، مجرد صنعة بلا أفق يقوم بها البعض للحصول على شيء من المال، وإن كان المال هنا أيضا شبيها بالمال الذي يحصل عليه الكتاب، مجرد دراهم لا تشجع على أي شيء.