تحتفظ ذاكرتي بكثير من الصور القديمة، مع كمٍّ هائل من الحنين لسنوات الماضي التي عشتها في القاهرة. تتربّع هذه المدينة على عرش القلب دون غيرها، وفيها ينتابني شعور بأني السمكة التي وجدت مياهها، وبحيرة حياتها. «هنا القاهرة» يعود بي الصوت إلى أيام الرّاديو، حين كان وحده يملأ البيوت بالحياة، وحين كانت القاهرة تعبر الحدود العربية إلى قلوب العرب في كل مكان، وكيف كانت تلك الأصوات الإذاعية الفخمة لا تكتفي بإسعادنا، بل بغزل أحلامنا أيضا.
يختلف الأمر اليوم، إذ يكفي تنزيل تطبيق صغير على هواتفنا الذكية ليصبح ممكنا سماع كل إذاعات العالم، على مدار الكرة الأرضية كلها. وهذا ناقض كل التوقعات بموت الراديو ونهايته مع حلول عصر الديجيتال، أو عصر الثورة التكنولوجية التي داهمتنا من حيث لا ندري. وإن كان «الجيل الرّقمي» يمتلك المهارات اللازمة لتشغيل ما يريد من خلال أزرار أجهزته الذكية، فيما يجهل تماما كيف هو شكل جهاز الراديو القديم وطريقة تشغيله، ولا يعرف جهاز الكاسيت، ولا أجهزة مماثلة مع أن تشغيلها يدويا في الغالب بزرّين اثنين، مهمة بإمكان أي شخص أمّي القيام بها. وهذا يجعلنا نصاب بالدهشة، فالتعقيد الذي نصادفه في الفضاء الرقمي، يستسهله حتى أطفال هذا الجيل، وكأنهم يولدون مبرمجين على الاستخدامات الحديثة لهذه الأجهزة الذكية التي تعمل فقط باللمس الناعم لشاشاتها.
في الماضي كان التقاط الأمواج الأثيرية لإذاعة ما معجزة العصر، وكان الحرص كل الحرص أن تكون الأصوات المنبعثة من كل إذاعة فصيحة وجميلة ومتميزة ومتمكنة من اللغة، وأيّ استهتار في هذه المقاييس ممنوع تماما. في الحاضر ورغم التوقعات المتشائمة بانقراض زمن الإذاعات المسموعة، فقد تكاثرت مثل الفطر في بستان ظليل، ويمكن سماعها وفق موقعها على خريطة الدول، دون استثناء بدءا بالقنوات الإذاعية الدولية الرسمية إلى قنوات الـ «FM». لكن رغم هذه الكثرة، لن نجد ضالتنا نحن أجيال الذائقة الصعبة. اختفت الأصوات الفخمة الساحرة، تلك التي تخطف قلب السامع فيصغي بكل جوارحه لما يقوله المذيع، وجاءت أصوات أقل من عادية بديلا لها، تهشّم اللغة تهشيما وكأنّها تمضغها، أصوات يفوح منها البؤس والجهل وكأنها لم تدخل مدرسة يوما، ولا أدري لماذا تتشابه وكأنها لشخص واحد يحاول تغيير لهجته في كل مرة. معجزة «الغرين غاردن» تجعلنا نقف عند عتبة الملل بعد عشر دقائق، ونحن ننتقل من إذاعة إلى أخرى بحثا عن مذاق قديم تحتفظ به الذاكرة ولا تهتدي إليه وسط هذه الغابة الإلكترونية المليئة بالأضواء الصغيرة، فلا تفرّق في الغالب بين ضوء وآخر، كلها أسقطت من جعبتها تلك القاعدة الذهبية التي تقول «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» التي كانت تعلّمنا فن الإصغاء.
كان الراديو ينقل أرواحنا إلى أماكن العشق، نصغي وإذا بالأثير يتحوّل لبساط سحري يحملنا إلى عالم حي، ينبض بالحياة، حتى إننا نشعر بنبضه ونشمُّ روائحه، ونلمس نعومته وخشونته، وندرك بكل حواسنا ما يدركه الكفيف أمام تفاصيل حياة لا يراها بعينيه بل ببصيرته. كنّا هكذا مع كل صوت إذاعي يجتهد ليكون الأفضل، في التقديم والإعداد واختيار الموسيقى والأغاني، فما الذي حدث حتى انقلبت الأمور رأسا على عقب؟ أسأل القاهرة عن تغيراتها، فتجيب بعكس ما أريد، تقول إن النيل هنا منذ الأزل، والأهرامات واقفة حيث هي، والشمس تشرق ببهائها الدائم، وتغرب بفتنتها المعتادة، وصخب الحياة كما في مشهد سينمائي يكاد يتكرر في الإيقاع نفسه. إذن ما الذي حدث؟
في سيارة التاكسي تنبعث أغنية مزعجة من الراديو، أطلب من السائق أن يسكته، فيغير القناة، فأكرر طلبي بلطف، فيسألني «تسمعي قرآن يا ست هانم؟» احتار كيف قدّم السائق «خدماته الإذاعية» بهذا التنوع المضحك المبكي بين أغاني «الهشّك بشّك» والقرآن الكريم. ولا أدري هل فهم أن ضجيج المدينة أصبح أفضل من ذلك التملّق الذي حوّل «المشوار» في سيارته إلى عقاب، فقد أسكت الراديو، وروى لي قصّة حياته وحظّه العاثر في إيجاد زوجة ثالثة تنسيه همّ زوجتيه «أنا ما ليش حظ في النسوان يا هانم» «حضرتك متجوزة؟».. أجيبه بنعم وأنا ألعن اللحظة التي طلبت منه فيها أن يطفئ الراديو، من صدماتي القاهرية الجديدة سيل الأغاني الشبابية، أو لنقل «التي عليها الطلب» والتي لا تطربني، وهذا السائق الذي ابتليت به، والتصق صوته بذاكرتي، مع ملاحظة أن لا فرق بين صوته وصوت المذيع الذي كان ينبعث من إحدى الإذاعات.
ثمة موجة تطغى على تفكير نسبة كبيرة من الإعلاميين مجاراة لما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تحويل المادة الإعلامية إلى مادة تشبه اليومي البسيط للناس، فنجد الإذاعيين يبالغون في الثرثرة بلغة الشارع من خلف الميكروفون دون أدنى احترام لقواعد الارتقاء بالمستمع إلى مستويات أعلى ثقافيا ولغويا وأسلوب كلام، بإمكان أي شخص أن يخطف الميكروفون من «المذيع إياه» ويبدأ بإدلاء دلوه وخبرته في كل شيء من موضوعات علمية إلى أخرى دينية إلى تحليلات سياسية تفوق الخيال مع إعطاء حلول اقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، والغرب الغاشم ونحن «الغلابة الطيبين»!
لقد أحدثت الإذاعات في العالم ثورة كبيرة أشبه بثورة ظهور المطابع على أيامها، وأحدثت نقلة مهمة للمجتمع ثقافيا وسياسيا واجتماعيا. لكن علينا أن نقف وقفة وداع لحقبة الاحتراف الإذاعي التي شهدها القرن العشرين منذ اخترع ستيفان كودلسكي «الناغرا» أشهر مسجل للأشرطة الإذاعية، إلى لحظة وفاته في سويسرا سنة 2013. الإذاعيون المحترفون الكبار يعرفون جيدا قوة الحنين لذلك الزمن الجميل، كما يعرفون أن الراديو لا يموت، إنه الصامد القوي على مدى قرن من الزمن، ودخوله العالم الرقمي اليوم دليل على ذلك. بإمكاننا تسميتها بالوسيلة الجماهيرية الأكثر شعبية في العالم، لأنها تصل إلى مليارات الأشخاص. بالتأكيد تبقى الموجات الإذاعية الأسهل للعثور عليها في القرى البعيدة جدا، كما يمكن بثها بكل اللغات المحلية على هذه البسيطة، يمكن للجميع أن يسمع ما يريد عبر هذه الثورة التكنولوجية، سواء كان الشخص قادرا على القراءة والكتابة أم لا.
لكن أمام هذا الانتصار الباهر للراديو، والإذاعيين في العالم يبقى السؤال الأهم، أين الإبداع والإتقان من كل هذا؟ هل الأصوات الإذاعية مجرد أصوات لملء فراغ ما؟ هل الراديو مجرّد أداة لإطلاق الإعلانات والترويج للسلع الاستهلاكية؟ أم أنه يلعب دورا أبعد من ذلك؟ ينسى المسؤولون على أغلب الإذاعات اليوم، أن الراديو وسيلة لا تقيّد مستمعيها، يمكنهم سماع ما يريدون وهم يتحركون، وينهون أشغالهم، وهي غير مكلفة، وربما هي الوسيلة الوحيدة غير المكلفة مقارنة مع وسائل إعلامية أخرى إلى هذه اللحظة.
للراديو تأثير حقيقي على الشعوب التي تخلى بعضها وفق نمط حياته عن التلفزيون مثلا، لكنه لم يتخلّ عنه، يزداد انتشارا في المناطق النائية، أو المنكوبة، أو تلك التي تشهد حروبا وصراعات. غير ذلك، يتربّع الراديو على عرش مكوّناتنا العاطفية المرتبطة بكل الفنون قبل أن نرتاد المدارس، ونتعلّم القراءة والكتابة ونحتك بالكتاب، لقد قادنا منذ سن اللاوعي إلى الدروب الأجمل لامتصاص أرقى ما توفّر من جمال.
في أيامي القاهرية هذه أخرج متاعي العاطفي القديم المرتبط بالأغاني القديمة، والموسيقى الجميلة، من هذا الصندوق العجيب الذي يسمى «إنترنت» وأطلق إذاعتي الخاصّة بأصوات تنبعث في داخلي وتزين أجمل لحظات أيامي المطلّة على النيل.
ربّما لا مناسبة للاحتفاء بالراديو اليوم، لكن أعتقد أن كل شخص يشغل إذاعته المفضلة كل يوم صباحا إنّما يحتفي به. مثلي تماما حين أصر على بدء يومي بأغنية أم كلثوم الشهيرة «يا صباح الخير يا اللي معانا…» وهي ربما الأغنية التي لا يمل منها المستمعون العرب جيلا عن جيل لأنها واحدة من تلك الأغاني الرّاقية التي أطلقت في زمن كان فيه الفشل ممنوع خوفا من تعميمه. ليت ذلك الزمن يعود، ألا توافقون؟