كنت، وما أزال مولعة، بالدراما التاريخية، مسلسلات وأفلاما، وأزعم أنه نادرا ما فاتتني مشاهدة مسلسل تاريخي، مع ما يستتبع ذلك من نقاش مرئي ومكتوب حوله. وقد أتاح لي عملي الطويل في إعداد وتقديم البرامج الثقافية أن أستضيف أشهر العاملين في هذا المجال، من مخرجين وممثلين وكتاب سيناريو، ورغم أنني أقارن بين أحداث المسلسل التاريخي أمامي، وما سبق أن اطلعت عليه من خلال قراءاتي، إلا أنني لم أتعامل يوما مع الدراما التاريخية، على أنها مقرر مدرسي مبني على مصادر دقيقة، أو برنامج وثائقي يتقصد مطابقة الحقيقة، بل كنت أنظر إليها على أنها مادة ترفيهية مبنية على وقائع، ولكن فيها من الخيال الشيء الكثير، وإلا كيف تُبنى الحوارات في هذه المسلسلات، وهي في الأعمّ الغالب بنت رأس كاتب السيناريو.
والدراما التاريخية يعتريها ما يعتري عملية تدوين التاريخ نفسه، إذ هو مكتوب برواية المنتصرين دائما، ولعل الرأي القائل «كيف نثق في التاريخ إذا كان الحاضر يتم تزويره أمام أعيننا» صحيح إلى حد كبير، وما يجري حاليا في غزة خير دليل، فمن يعتمد الرواية الغربية يصبح لديه الجلاد ضحية والضحية جلادا. ويمكننا في كل مسلسل تاريخي ـ إذا نظرنا بعين ناقدة ـ أن نجد فيه ثغرات، سواء من المفارقات كأن لا تتطابق عناصر الدراما مع الفترة الزمنية، التي يصور المسلسل، أو الفيلم أحداثها، كالأزياء أو نمط العمارة أو الأسلحة، أو من التفسير الخاطئ للأحداث، دون أن ننسى الصورة النمطية المترسخة في ذهن كاتب السيناريو والمخرج، فالهندي الأحمر مثلا بقي ذلك الرجل المتوحش الذي يقتل الأوروبي الأبيض، يضاف إلى ذلك إغفال بعض الأحداث المهمة لفهم السياق التاريخي لمحدودية الوقت المتاح للدراما. ورغم أن الأعمال التاريخية هي دائما الأعلى كلفة إنتاجيا نتيجة ديكوراتها الضخمة التي تتطلب إعادة بناء كاملة لفترة زمنية معينة بعمارتها وملابس ساكنيها ومراكبهم، ما يقربنا بصريا وذهنيا من الفترة التي تتناولها الدراما، وهذا ما يُحدث لكثير من المشاهدين لَبْسا، أن ما يشاهدونه هو حقيقة ما حصل في تلك الفترة، فيستاؤون حين يجدون ما يخالف ما تعلموه في المدارس، أو قرأوه في الكتب فأصبح مسلَّمات لديهم.
انتابتني هذه الأفكار وأنا أتابع الضجة التي أثارها مسلسل «الحشاشين» التاريخي (كتابة عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي) فمنذ حلقته الأولى بدأت محاكمة الفيلم من ناحية أخطائه التاريخية واللغة المستعملة فيه. وسأناقش هذين الجانبين في تأملات لا تقف عند مسلسل «الحشاشين» وحده إذ هي لازمة تتكرر مع كل فيلم أو مسلسل تاريخي، وأكثر الملاحظات تنصب عادة على الأخطاء التاريخية، فقد تتبع النقاد مثلا قصة اللقاء الثلاثي بين حسن الصباح وعمر الخيام ونظام الملك، وهم طلبة يدرسون مع بعض وتعاهُدِهم على أن من يصل منهم إلى مرتبة عالية يساعد أصدقاءه، ليقولوا إنها مجرد أسطورة فتاريخيا نظام الملك أكبر من الصباح بعشرين سنة، كما أنهما درسا في بلدين مختلفين.
وحتى نتخفف من إعطاء هذه المسألة فوق ما تستحق يكفي أن نكتب جملة «الأخطاء التاريخية في المسلسل أو الفيلم الفلاني» حتى تسودّ أمامنا الشاشة بمقالات عديدة عن الموضوع، وليس هذا التتبع للأخطاء التاريخية والمغالطات حصرا على الدراما التاريخية العربية، ويكفي أن نضرب مثالين من أفلام عالمية، ففيلم «القلب الشجاع» Brave heart لميل غيبسون إنتاجا وإخراجا وبطولة والحائز الأوسكار لأفضل فيلم تعرّض لملاحظات عديدة، وارتكبت فيه أخطاء تاريخية لعل أبرزها في اللباس، إذ ظهر المحاربون الاسكتلنديون وهم يرتدون تنورات، كما هو الزي التقليدي الاسكتلندي حاليا، في حين أنهم تاريخيا لم يلبسوها إلا بعد ثلاثة قرون كاملة من الفترة التي تدور فيها أحداث الفيلم. فهل أنقص ذلك من قيمة الفيلم الفنية، سوى عند من يعتبرونه وثيقة تاريخية يجب الحفاظ عليها حرفيا.
ذا الحرص على إتقان اللغة نطقا وإعرابا أعطى التميز الواضح للمسلسلات التاريخية السورية، بل أصبح بعضها نماذج تدرّس مثل «ثلاثية الأندلس» (كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي) و»الزير سالم» و»العبابيد» و»هارون الرشيد» و»صلاح الدين الأيوبي»، بل أرى نجاح المسلسلات التاريخية المصرية القديمة راجع إلى إتقان ممثليها للعربية الفصحى.
وإذا طلبنا أن يصف لنا أي مشاهد رجلا من الفايكنغ، فسيذكر حتما خوذته الشهيرة التي تحمل في أعلاها قرنين، وهو ما شاهدناه مرارا في جميع الأفلام والمسلسلات التي تتناول قصتهم، غير أنه لا يوجد أي دليل تاريخي على ارتدائهم الخوذة ذات القرنين، ويذهب موقع «هيستوري History» إلى أن «الفايكينغ ارتدوا أغطية رأس دون قرون، وأرجع الموقع هذا التنميط المغلوط الشائع إلى القرن التاسع عشر، عندما أعطى مصمم الأزياء كارل إميل دويبلر لخوذات الفايكينغ قرنين في أوبرا فاغنر».
أما جانب اللغة في الدراما التاريخية، فلا يمكن لطرفي النزاع أنصار العامية وأنصار الفصحى أن يزعم أحدهما، أنه يمتلك الحقيقة حصرا، فهي مسألة خلافية، ولكل طرف فيها حججه، إذا يذهب الذين يفضلون أن تكون الأعمال الدرامية بالفصحى، إلى أنها لغة ذلك العصر وأقرب إلى روحه ويدللون بأن هذا ما سارت به العادة في أغلبية المسلسلات التاريخية، في حين يرى مفضلو العامية، أنها أسهل في التلقي وأقرب إلى فهم المشاهد المعاصر الذي لا يستعمل اللغة الفصحى في حديثه اليومي، ما يؤدي إلى نفرته من المتابعة، خاصة إذا كُتب السيناريو بلغة تتضمن تراكيب وألفاظا لم تعد تستعمل في عصرنا الحالي، ولكني أرى من وجهة نظري أن المسألة اللغوية في الدراما التاريخية أبعد من ذلك، فالإعراض عن استعمال الفصحى ليس فقط للسبب الذي ذكرناه، بل لأن كثيرا من الممثلين أصبحوا لا يتقنونها، علما بأن منهم من جاء إلى التمثيل من خلفيات بعيدة عن معاهد الفنون المسرحية، فلم يمثلوا بالفصحى ولم يتمثّلوها، وأذكر أنني سألت الفنان جمال سليمان عن سر تميز السوريين في المسلسلات التاريخية فأرجع ذلك إلى أن الممثلين متخرجون أساسا من المعهد العالي للفنون المسرحية، ومسألة تمثيل الأعمال العالمية فيه بالعربية الفصحى ضرورية، وقال مرة إن أساتذته في المعهد مثل أسعد فضة وفواز الساجر كان يهمهم رفع الفاعل ونصب المفعول قبل التمثيل.
هذا الحرص على إتقان اللغة نطقا وإعرابا أعطى التميز الواضح للمسلسلات التاريخية السورية، بل أصبح بعضها نماذج تدرّس مثل «ثلاثية الأندلس» (كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي) و»الزير سالم» و»العبابيد» و»هارون الرشيد» و»صلاح الدين الأيوبي»، بل أرى نجاح المسلسلات التاريخية المصرية القديمة راجع إلى إتقان ممثليها للعربية الفصحى، ونستحضر في بالنا الأخوين عبد الله وحمدي غيث وعبدالوارث عسر وزكي طليمات، وأبعد من ذلك أعتقد أن نجاح فيلم «المصير» عن ابن رشد لا يعود إلى استعمال العامية فيه، بقدر ما يعود إلى نجومية مخرجه يوسف شاهين وحشد من أبطاله المشهورين مثل نور الشريف وليلى علوي ومحمود حميدة وصفية العمري ومحمد منير وخالد النبوي، فهذا الجيش من النجوم كفيل بأن يكون رافعة تحقق النجاح التجاري لأي فيلم ولو كان متواضعا. وكلنا نذكر حجم التعليقات الساخرة التي تعرض لها مسلسل «رسالة الإمام» حين جعل القائمون على الفيلم الإمام الشافعي وهو الحجة الذي تُأخذ عنه اللغة يتحدث بلهجة قاهرية حديثة. ولعل الخلطة التي توصل إليها وليد سيف في كتابة الدراما التاريخية هي الأنجح حين قال في مذكراته «الشاهد المشهود»: «قررت منذ اللحظة الأولى ألا أتنازل عن المستوى البلاغي الأدبي، وفقا لمقتضيات الموقف الدرامي والشخصية والعصر الذي تدور فيه الأحداث.. فليس من المعقول ولا المقنع أن نُنطق شخصيات العصور التاريخية المتقدمة بأسلوب عصري يحاكي لغة الصحافة مثلا» فما بالنا بلهجة تعبّر عن قسم من سكان العالم العربي فقط، وإن كانت مفهومة لدى أغلب سكانه، وبعد ذلك ليس لنا الحق في الاعتراض على الجزائري، أو التونسي، أو حتى الجيبوتي إن قدم مسلسلا تاريخيا عربيا بلهجته. وتبقى بعد ذلك كله الدراما التاريخية متعة بصرية وسياحة في الزمن الماضي تنقلنا إلى فترة وتعرفنا بشخصيات لطالما أثارت فضولنا وإن تلاشى فيها الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال.