لنبدأ بمجموعة أسئلة:
لو عاد أحمد شوقي أو خليل مطران أو معروف الرصافي، أكانوا تعرفوا إلى شعرنا الحالي؟
لو عاد دارسو الشعر، مثل جبر ضومط أو مصطفى صادق الرافعي أو محمد بن العباس القباج، أكانوا أقروا بأن ما نكتبه هو من الشعر؟
الجواب غير أكيد…
تحول المشهد الشعري
الأكيد هو أن مشهد الشعر اختلف في المئة سنة الأخيرة، خاصة في العقدَين الأخيرَين، وبات يتم الحديث دون مناقشة كافية، بل التمييزُ، بين الشعر الحديث والشعر المعاصر.
لنتوقف قليلا عند المصطلح: قد يعني المعاصرُ ما بعد الألفية الثانية، والراهنَ الشعري في أفضل التعريفات. وقد يعني دورة جديدة مختلفة في مسار الحداثة المتعرج. هذا المصطلح حاضر، وبات يُخرج مصطلح ما بعد الحداثة من التداول. لهذا يصح، في نظري، درسُ «المعاصر» لكن بالاستناد إلى المعاينة أكثر من المنظور الفلسفي.
هناك ما تغير مؤكدا في مشهد الشعر العربي في المئة سنة الأخيرة، وأكثر مِما عاشَه الشعر وعرفَه طوال ما يقرب من أربعة عشر قرنا. مع ذلك، هناك من يقول: الشعر يموت، تتحشرج أنفاسه على الأقل، على الرغم من أن الإقبال على كتابة الشعر أكيدٌ، مستمر في عالم العربية. ما الداعي المستمر، والمعاصر، إلى كتابة الشعر؟
املاحظة أولية: الشعر يحيا في العالم العربي، على الرغم من كلام كثير حول زمن الرواية، وموت الشعر. وأتساءل أحيانا: من أين يتأتى هذا الولع؟ أمِنْ إرث قديم، متمادٍ في المخيال الثقافي والاجتماعي؟ أتساءل ما دام الشعر يواجه مشاكل كثيرة في النشر.. أتساءل مع أن شعرا كثيرا يُنشر (خاصة في فيسبوك) لا يستقيم لغة وتعبيرا؟ لا أقول إن هذا الوسيط يسهل عرض الشعر لدى بعضهم، وإنما أقول أيضا إن صورة الشاعر تجد متنفسا لها فوق هذه الجدران اللماعة.
مم يتأتى هذا التدافع الشديد أمام بوابات القصيدة، خصوصا أن العربية تتراجع، والثقافة العربية – هي نفسها- تتراجع بدورها؟
قد يعود الأمر إلى أن شبانا وشاباتٍ لا يزالون يُولمون لأنفسهم فوق موائد خيالية، مفتونين بخمرة أبي نواس أو بشجن السياب أو بتشرد الماغوط. يُقبلون عليه، مع أن الشعر يعايش أزمة ممتدة، هنا وهناك، بل يكاد أن يعيش في وحشة آسرة لدى بعضهم. لم يعد الشعر متسيدا، في عليائه الجمالية، على غيره من فنون الأدب والصورة، في وقتٍ يزداد فيه حضور الصورة على ما عداه، وتركنُ الثقافة وتُعزز ما يمكن تسميته بالثقافة العريضة (ثقافة الشاشتَين، الصغيرة والكبيرة، المسندة إلى ثقافة السرد وغيرها). فيما تحتاج القصيدة، لاسيما الحديثة منها، إلى قدر من التلقي الثقافي والجمالي، والذي هو أقرب إلى الاجتهاد العالي والمتشدد في التخييل والبناء.
من يَعُدْ إلى تاريخ الشعر العربي قبل مئة عام، سيجد أن الشعر الحالي اختلف عنه: اختلفَ في مقومات بناء القصيدة، أي في عناصر تشكلها وانتظامها؛ وهو ما ترافقَ أيضا مع اختلاف في خياراتها، وما تطلبُه من تجليات ثقافية وجمالية. كما سقطت «أنواع» الشعر العربي (من مدح وهجاء ورثاء وغيرها) وخرجتْ القصيدة من ثقافة البلاط صوب التداول الحيوي والمتنوع في الشارع، والمقهى، والغرفة الانفرادية، وسواد الورقة البيضاء.
شعرٌ متعدد، متنوع، لا ينفصل عن انشداداتٍ تربطه بشواغل مرتبطة بالفرد، والجماعة، والرؤى، والقيم. شعرٌ شهدَ تقلبات عديدة، لم يدركها الدرس، خصوصا أن الخطاب عن الشعر يتناقص في العالم العربي. هذا التاريخ الشعري المتأخر يحتاج إلى درس كثير وشديد، إذ لم يُدرس كفاية، ولا تُعتبر الكتب المتوافرة عنه (ابتداء من سِيَر شعراء معروفين) بالتاريخ الشعري المناسب. هذا الشعر الأخير يحتاج أيضا إلى درس أبنية القصائد، درسا يلم بجوانبها المتجددة والمتغيرة، ذلك أن ما نشهده أكثر فأكثر في هذا الخطاب يقترب من تأويل القصيدة، بل من تفسيرها، ما يشدها إلى معالجة «موضوعات» و»قضايا» مثل الوطن والاستلاب والغربة وغيرها، دون منهج ناظم. وهو تراخٍ أكيدٌ في الدرس، ما يجعل درس القصيدة مُفقرا، يعوم في عموميات مستهلكة من خطاب ثقافي لم تُدرس كفاية مرتكزاتُه في التاريخ، وفي بناء الشكل، وفي قضايا المجتمع، وفي التمثلات والخيارات الثقافية والجمالية. وهذا ما يجعل الدرس غائبا بالتالي عن طرح «شرعية» الشعر المتأخر، أي علاقته بما كان عليه «العمود» والبلاغة، من جهة، وبما يتجلى فيه من خيارات مستجدة، من جهة ثانية.
أنواع الشعر: السياق والتداول
لنتوقف طلبا لوصف الحال: أي شعر؟ بل بات السؤال الجديد: أي أنواعٍ للشعر؟
يمكن الحديث عن أربعة أنواع: الشعر العروضي، الشعر التفعيلي، الشعر بالنثر، والشعر بالعامية (وهو ما لن أتناوله في محاضرتي) بل يمكن أن نضيف إليها في الشعر بالنثر تجارب معلنة، مستجدة، في العقدَين الأخيرَين، منها الومضة، والشذرة الحكمية أو ذات المفارقة، والأدب الوجيز، و»الهايكو» وغيرها. كما يمكن التحقق من ظهور مواقع ومجلات افتراضية، خاصة بالشعر، نشرا ونقدا واجتماعات، ما يعوض ويعزز أشكالا من التساند بين شعراء ومجموعات، وما يُخفف من قلة النشر الكتابي للشعر، وغياب المهرجانات والندوات والأمسيات وغيرها. ومن اللافت أن بعض هذه المشروعات التواصلية تُدار من خارج العالم العربي، من باريس أو الولايات المتحدة الأمريكية أو السويد وغيرها من أمكنة المهاجرين العرب.
ماذا عن الشعر العروضي؟
مستمرٌ، لكن بحضور متراجع؛ بات أقرب إلى شعر رسمي يصلح لاحتفالات التكريم والمقامات والمكانات وللأناشيد والأغنيات الرسمية والعسكرية والوطنية.
لا شعراء يجددونه واقعا، بل يتناسلونه وحسب، دون مواهب بقوة محمد مهدي الجواهري أو سعيد عقل لتجديد حياته وحضوره. وهذا وصفٌ، لا حكمٌ، لأن من يَعُد إلى الشعر قبل هذين الشاعرين، ولاسيما في القرن التاسع عشر وقبله، لن يجد شعرا بقوة البناء والتعبير لدى هذين الشاعرين؛ وهذا يعني أن ما تكفلا به يعود إلى قوة الموهبة وقوة التدبير لديهما، ولا يعود فقط إلى تناسب تجربة كل واحد منهما مع الزمن.الشعر العروضي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولو تشبثَ به شعراء وشاعرات، ومؤسساتٌ وشركاتُ تلفزيون؛ ولو أقيمت له مسابقات وندوات، لم تُتَح أبدا ـ يا للمفارقة! لا للشعر التفعيلي، ولا للشعر بالنثر.
من يتوقف عند بعض هذا الشعر يتحقق من كونه لا يعتني ببناءِ شكلٍ للقصيدة، مكتفيا بالاسترسال، أو ببناء مفارقة مفاجئة. هذا ما يجعل القصيدة أقرب إلى الخاطرة، وإلى المكاشفة الحميمة، أو إظهارا لذات الشاعر أو الشاعرة، ما يلائم ويلازم ظاهرة فيسبوك في التداول.
وماذا عن الشعر التفعيلي؟
استذكر حكاية الشاعر المصري الشاب صلاح عبد الصبور مع رئيس لجنة الشعر الشاعر والناقد المصري عباس محمود العقاد، عندما أتاه عبد الصبور بمجموعته الشعرية طالبا الإذن بنشرها من العقاد (رئيس لجنة الشعر حينها) فكان أن كتب العقاد فوق الطلب: «تُحال إلى لجنة النثر». تغيرَ المشهد تماما؛ وعرف هذا النوع الشعري مع الصبور وأقرانه تجربة واسعة، ممتدة وغنية. ويتابع النشرُ كما الدرسُ إنجازاتِ عدد من شعراء هذا النوع. فتجديدات هذه القصيدة في الشعر العربي الحديث أكيدة، كما عرفتْ أكثر من جيل فيها، في غالب البلدان العربية، ما جعلها الظاهرة الأميز في الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. من يتابع إنجازات هذه القصيدة، وتجلياتها، يتحقق – في مراجعة مقتضبة لها- من أنها بلورت قولا شعريا يجمع بين الفردي والجماعي، في موضوعات وقضايا ذات ترجيعات وأصداء في وجدان النخب المتعلمة، لاسيما الحزبية والمسيسة منها. وهي، في ذلك، فتحتْ القصيدة على تعابيرِ خارجِها، طالبة تجديد علاقةٍ وتموقعٍ بين النخبة والجمهور، وحول «موضوعات» تنهل من السياسي في المقام الأول. هذا التلاؤم، الذي طلبتْه، جعلَها تتخفف من تطوير بناء القصيدة في أحيان كثيرة، فغلبَ عليها الطلبُ على بناء قصائد طويلة، لكن دون مساع تجديدية في شكلها، أو على جعلِ الشاعر أقرب إلى المنشد، أو المتكلم في جمعٍ، ما جعلَ القصيدة تتوجه إلى قراء، لكن في هيئة مستمعِين. فهناك رنينٌ منبري، وتقليدي، لا يزال يتماوج في هذا الشعر التفعيلي. هذا أظهرُ ما يَظهر في قلة التجديد التفعيلي في هذه القصيدة، إذ جرى الاكتفاء بتفعيلاتِ عددٍ محدود من الأوزان في الشعر العربي؛ كما لم تَبلغ هذه القصيدة ما طلبَه محمود درويش، في أخيرِ شعره، من تشكيلات جريئة ومبتكرة بين الأوزان والتفعيلات، من جهة، والتفعيلة والجملة النثرية، من جهة ثانية.
وماذا عن الشعر بالنثر؟
ما بدأ مع محمد الماغوط وأنسي الحاج في نهاية الخمسينيات، يعود في تجاربه الأولى إلى خمسين سنة سابقة، مع جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهما، أي مع القصيدة المنثورة. من يَعُد إلى تجربتَي الماغوط والحاج، سيتحقق من كونهما كتبا القصيدة المنثورة قبل القصيدة بالنثر. ولأبدأ بملاحظة عامة بصدد هذه القصيدة -وهي قد تثير الجدل عند بعضهم: القصيدة بالنثر (كما كتبتُ منذ سنوات بعيدة) هي من الشعر ومن غيره، ما يعني أنها تُخالف «جنسية» الشعر أو «نوعيته». ولو شئتُ الاختصار، لقلتُ إنها قصيدة اللاجنس، أي ضد التجنيس، أو العاملةُ على استيعاب أكثر من جنس أدبي فيها. هي تَجمع، في أبنيتها، أجناسا وأنواعا من خارج الشعر المعهود، لكن ما يغلب على تشكلاتها وتجلياتها هو قربُها وتعويلها على التخييل أساسا لبناء نصوصها. لهذا هي من الشعر، وإن تفتحت مداراته على غيره. هكذا خلخلتْ القصيدة بالنثر المشهد الثقافي العربي، والشعرية العربية: ما كانت نازك الملائكة تأنف منه، وتَعده خارج الشعر، عند ظهور هذه القصيدة في نهايات الخمسينيات من القرن الماضي،بات العلامة القوية في هذا المشهد، ولاسيما في الشعر العربي المعاصر. ما كان موضعَ سجال حاد بعد الملائكة، وما شغلَ مساحات واسعة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، قد تختصرُه صرخة محمود درويش في عام 1982: «أنقذونا من هذا الشعر».. ذلك أنه يمكن القول إن هذه القصيدة «سطت» (بشيء من التجاوز في الوصف) على المشهد الشعري، برفضيتها الشديدة، وتمردها على الاتباع. لكن ما غلب على عدد واسع من تجاربها، هو أعراضُ طفرةٍ هذا النمو الذي استسهلَ، في أحيان كثيرة (خاصة في العقدين الأخيرين) أكثر مما بنى. فالقصيدة بالنثر العربية، وإن ابتدأتْ من مثالٍ فرنسي (قصيدة بودلير ورامبو) فإنها لم تعرف هذا المثال تماما، بل تمكنَ منها النزوعُ وحسب إلى كتابة مختلفة ومتمردة على ما هو معتمد وسارٍ: طلبت هذه القصيدةُ الكتابةَ ضد، دون أن تعني هذه الضدية (بمعانيها المختلفة) بناءَ وبلورةَ أشكال بنائية مميزة لها بالضرورة. القصيدة بالنثر تمتد بقوة في المشهد دون تبلورات بنائية بالضرورة؛ بل تمتد مع هذر كثير.
هكذا يجري الاسترسال، لاسيما في القصائد المعاصرة، وراء نثريةٍ تخف فيها مقادير التخييل والصورية، وتكتفي، في أحوال كثيرة، بالتلفظ الشاكي، وتعبيرات النزق، والإعلاء من نرسيسية ولو في شوارع معتمة وخلفية في المدن العربية، أو على جدران فيسبوك اللماعة.. لذلك تبدو هذه القصيدة أقرب، في عدد من تجاربها، إلى برية شعرية وجمالية، عدا أنها تكتفي بقول الوجدان الغنائي، ناسية أن هذه القصيدة بالذات هي صنيعٌ ثقافي وجمالي (في كل مندرجاته) قبل أي شيء آخر.
من يتوقف عند بعض هذا الشعر يتحقق من كونه لا يعتني ببناءِ شكلٍ للقصيدة، مكتفيا بالاسترسال، أو ببناء مفارقة مفاجئة. هذا ما يجعل القصيدة أقرب إلى الخاطرة، وإلى المكاشفة الحميمة، أو إظهارا لذات الشاعر أو الشاعرة، ما يلائم ويلازم ظاهرة فيسبوك في التداول.
عمود» الشعر لم يعد كافيا، بل انكسر تماما. حتى الكلام القديم عن الوزن والقافية لم يعد صالحا. هناك ما هو أوسع منهما لتحديد الشعر الحديث والمعاصر. وهناك ما يستوعب الوزن والقافية ويتخطاهما.
من الواحدية إلى التعددية
هكذا يمكن القول إن المشهد الشعري بات متعددا، متنوعا، وخرج بالتالي على الواحدية القديمة، ولم يعد يحتكم – فقط – إلى ثقافته الشعرية القديمة، بعدتها كلها. والجديد الحاسم في مجموع هذا الشعر، الحديث أو المعاصر، هو أنه أبدلَ بنيته، بالمعنى البنائي الصرف، دون أن يبدل تموقع الشاعر من الجمهور: لا يزال شعرٌ كثير، من جميع الأنواع، يحتكم، في صورة مسبقة، إلى المستمع، ويتوجه إليه، لا إلى القارئ المحض، كما تستوجبُه مدنية القراءة والكتابة. لهذا تجد شعرا كثيرا يحتفظ بالشفوية، بالتخاطبية، وتوقيعاتها الغنائية، سبيلا مستجدا للشعر؛ وهو ما يناسب القصيدة إذ تتوجه إلى «جمهور» إلى نخبة، إلى الجالسِين في ندوة، لا في عتمة القراءة الانفرادية ومتعتها. هذا لا يعني توجهاتٍ بعينها، ورؤى بعينها، إلا بالقدر الذي يَطلب فيه الشاعر تموقعا في المجتمع، في الزمن، بواسطة قصيدته. وهو تموقعٌ يَطلب التكلم باسم مجموعٍ ولو غير مرئي حضوريا، ما يتشابك مع «قضايا» ومع تمثلاتها وموسيقى انتظامها. من هذا القبيل أيضا ما يتجلى في رؤى تحكي الذات في انفرادها، في مخالفتها وضديتها لما هو جماعي، فنراها تنصرف إلى قولِ عيشِ البدن، وهواجسه وتهويماته ومرغوباته، بما فيه بدن المرأة في شعر كثيرات من الشاعرات العربيات في العقدَين الأخيرين.
مشهد جديد للغاية، كثير التجارب والإنجازات، إلا أنه لا يُدرس كفاية (وهو ما سأنهي به محاضرتي، عاملا على توجيه أسئلة خاصة بالدرس والبحث الشعريين).
«عمود» الشعر لم يعد كافيا، بل انكسر تماما. حتى الكلام القديم عن الوزن والقافية لم يعد صالحا. هناك ما هو أوسع منهما لتحديد الشعر الحديث والمعاصر. وهناك ما يستوعب الوزن والقافية ويتخطاهما. أتوقف عند مثال أول، متصل بوحدة البيت: هذا المبدأ ناظمٌ للقصيدة العروضية، مع أننا لا نجد الكثير عنه في المدونة النقدية القديمة. يكفي أن نفحص كثيرا من شعر الكبار قبل المغمورين فيه لكي نتأكد من أننا نقوى على نقل أبيات كثيرة في أي قصيدة، دون أن يختل بناؤها. هذا المبدأ سقطَ، حتى عند شعراء عروضيبن في القرن العشرين، كما عند الشعراء التفعيليين والشعراء بالنثر. إلا أن متوجبات «سقوط» هذا المبدأ لم تُدرس تماما: ما الذي بات يُوقف السطر الشعري، أو يجعله يمتد إلى السطر التالي في الصفحة؟ ما العلاقات الحاصلة، في هذه القصيدة أو تلك، بين الجملة (منتهية أو معطوفة أو ممتدة) والسطر الطباعي؟ وهو سؤالٌ له أن يتشعب أكثر في انتظام الجُمل في تفعيلات، وفي بنائها للجُمل، وفي توزعها في سطر وأكثر. في الإمكان طرحُ أسئلة مزيدة بهذا الخصوص؛ أريد من هذه الأسئلة أن أشير إلى أن مبدأ «التمدد» أو «الجريان» (إذا شئتم) بين الأسطر الشعرية المتتابعة بات هو الأحكم في بناء القصيدة؛ وهو ما يشير ـ ولو من باب خفي- إلى أن النحو، واحتياجاته، هي التي باتت تتصدر عمليةَ البناء، فيما كان الوزن يتكفل بذلك في السابق.
مطلب الإيقاعية
مسألة أخرى مرتبطة بهذه، وهي مسألة الوزن والتفعيلة بين الجملة والسطر. كيف لها أن تُدرس؟ هل ندرسها وفق مبدأ السطر (كما كان يُدرس سابقا وفق البيت) أم ندرسها وفق التشكلات التي قد تقع في سطر، أو قد تمتد إلى أسطر متعددة؟ ما يكون دور التفعيلة في هذه الحالة: هل نكتفي بتنسيبها (كما يفعلون عادة) إلى هذا البحر أو ذاك أم ندرس ما يتشكل في موسيقية الأسطر والجُمل، وهو ما يتعدى إيقاعية التفعيلة والوزن نفسها؟ أليس جديرا بالبحث معاينة «موج الكلام» (كما أحب تسميته) في البناء التفعيلي أو البناء بالنثر، أي الموسيقية المتولدة في تشكلات غير متكررة ومتتابعة، أو تنتظم وتنقطع كذلك في القصيدة بالنثر؟ ما أريد التشديد عليه، في هذه المسألة، هو أن التشديد على الوزن، أو التفعيلة، أو (كما يقال) «الإيقاع الداخلي» لا يُظهر موسيقية القصيدة الحديثة والمعاصرة في انتظاماتها المختلفة، خصوصا أن دراسة الصفات الصوتية للحروف، و»النبر» و»التنغيم» وغيرها تكاد أن تكون معدومة في الدرس العربي.
مسألة ثالثة: ماذا عن امتداد السطر من توقفه في القصيدة بالنثر؟ ليس المقصود من السؤال التوقف عند العلاقات بين الطباعي والنحوي في هذه القصيدة، وإنما أريد التكلم عن الشكل البنائي لهذه القصيدة. فالشعر (مثلما علمنا هيغل وغيره) «شكلٌ جمالي» في المقام الأول؛ وهذه الصفة تتعين وتُطلَق على كل صنيع أدبي أو فني طالبٍ للجمالية. هل يمكن القول إن القصيدة تَمثل كما تَطلب شكلا، بل أشكالا متعددة لبروزها الطباعي والجمالي أم هي قصيدة منداحة، مسترسلة، دون قواعد خاصة بها، ودون شكل تَعمل على بلورته وإقامته؟ هذا يحتاج إلى معاينة هذه القصيدة، وفحص تشكلاتها، ومدى توافر الشكل البنائي الخاص بها…
أنتقل إلى مساءلات أخرى، متصلة بعلاقات القصيدة بالفنون والآداب الموازية لها والمتفاعلة معها: سبق لي، في غير بحث وكتاب، أن توقفتُ، في الشعر العباسي، أو في الشعر المتأخر، عند علاقات القصيدة بفنون الصورة؛ وهو ما أطلب إثارته في أكثر من مسألة: سبق لي التوقف عند فاعلية «الخيال» في القصيدة الحديثة والمعاصرة، من جهة، وعند تفاعل هذه القصيدة مع أساليب مختلفة من الفنون التشكيلية والسينما، كما من السرد وغيره، من جهة ثانية.
كيف تُدرس هذه القصيدة دون درس شعرية الخيال؟
كيف تُدرس دون درس شعرية الصورة فيها؟
كيف تُدرس، دون درس أساليب الكتابة الأدبية المختلفة في كيانها الجديد، أي تأثرها بالسرد، بأنواعه المختلفة، من رواية، وقصة قصيرة، وسيرة، وسيرة ذاتية وغيرها؟
كيف يمكن درسها دون الانتباه إلى البصرية، بل السينمائية (كما أدافع عن ذلك) فيها؟
جريدة القدس العربي