لا يزال المشهد الروائي العربي يزخر بالعديد من التجارب والأصوات المتنوعة التي تسعى من خلال الرصد والتخييل إلى إثراء حركة الروائية العربية بالمزيد من الإنتاج السردي الملهم والشيق. بالإضافة إلى ذلك يساهم وجود الجوائز العربية المخصصة لفن الرواية في المقام الأول، وتزايد عددها، إلى التعريف بالمزيد من الأقلام والكتابات والروايات، وهكذا يستمر المشهد لتقديم الجديد المختلف على مدار العام.
في 2024 تعرفنا إلى عدد من الكتابات والأصوات الروائية الجديدة، بالإضافة إلى تجارب مختلفة لأصوات معروفة، واختلفت الروايات بين العودة الى التاريخ وتناول سير وأحداث لشخصيات تاريخية، يرى البعض فيها أثرا أو أهمية لأن يعود حضورها وتأثيرها اليوم، وبين روايات أخرى تعرض الواقع الحالي بكل ما فيه من مشكلات، سواء كانت خاصة بالمجتمع أو العالم. ولا شك أن الحروب والصراعات الدائرة في عالم اليوم كان لها حضور خاص، كما لجأ البعض إلى الخيال ونقلنا إلى عالم آخر مختلف عما نعيشه أو لجأ إلى قراءة المستقبل وتوقع ما يمكن أن يكون عليه العالم. نطل على بعضٍ من أعمالهم في ما يلي، مع الإشارة إلى أن الأعمال المذكورة ليست كلّ ما نشر ولا بالضرورة أهمّ ما نشر من روايات في 2024، بل هي الأعمال التي رصدها كاتب المقال وتناول معظمها في مقالات عدة في "المجلة" خلال العام الحالي.
"قاهرة اليوم الضائع" لإبراهيم عبد المجيد
بأسلوب يجمع بين الفانتازي والواقعي، يأخذنا الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد في هذه الرواية إلى القاهرة في 2022 ودعوات جديدة الى التظاهر، ولكن المفاجأة أنها لا تجد لها من يستجيب! فما الذي حدث للقاهرة وما الذي تغيّر في الناس؟ يسائل إبراهيم عبد المجيد الثورة والهزيمة، ويتتبع ما حدث لمصر والمصريين بعد أكثر من 10 سنوات على ثورة غيّرت وجه البلاد وأطاحت النظام القديم، فما الذي يمكن أن يحدث لو استعاد الناس تلك الثورة؟ وهل نجحت الثورة بالفعل في ما كانت تنادي به، أم أنها تحولت الى ورقة من أوراق التاريخ وذكريات يتندر بها الشباب؟
يكسر عبد المجيد حاجز الإيهام لدى القارئ، فيتحدث عن نفسه وعن رواية يكتبها، ويقابل فتاة جميلة ويأخذها في جولة إلى قاهرة متخيلة خلا منها سكانها، ليحدثها عن عدد من الأماكن المهمة في القاهرة بدءا من مصر الجديدة حتى ميدان التحرير حيث قامت ثورة يناير 2011 مرورا بعددٍ من المقاهي العريقة والأماكن التاريخية ذات الخصوصية، التي يحمل كل منها حكاية يمكن أن تروى وتقوم عليها رواية منفصلة. يتجول بين الزمان والمكان ويستعرض العادات والموروثات الشعبية ويحكي علاقة المصريين بالملك تارة وبالمحتلين تارة أخرى ثم بالأنظمة الاستبدادية والقمعية في نهاية المطاف، ويبدو بين كل ذلك حريصا على استحضار الفن والجمال من بين سطور التاريخ ولملمة آثاره من الواقع.
"العشيق السري لفيراو ميركل" لريم نجمي
من المغرب تطل علينا ريم نجمي بروايتها الجديدة التي تتناول فيها قصة متخيّلة تجمع بين مناقشة مشكلات المغتربين في أوروبا، وبين هوس الإعجاب بالمشاهير، من خلال شخصية الشاب السوري يونس الخطيب وهو لاجئ في ألمانيا ولكنه يقع في غرام المستشارة ميركل ويكتب لها الرسائل والخطابات الغرامية، بل ويصل به الأمر إلى اقتحام منزلها بالفعل. ومن خلال هذه الحكاية تتناول الكتابة أبعاد وطبيعة العلاقات بين المغتربين في ألمانيا بالإضافة إلى العودة إلى بعض الحكايات عن سوريا وما كانوا يواجهونه من قمع وقهر في بلادهم جعلهم يغتربون في محاولة للحصول على حياة أفضل.
لا شك أن الحروب والصراعات الدائرة في عالم اليوم كان لها حضور خاص، كما لجأ البعض إلى الخيال ونقلنا إلى عالم آخر أو لجأ إلى قراءة المستقبل وتوقع ما يمكن أن يكون عليه العالم
استطاعت ريم نجمي أن تعكس في روايتها طبيعة حياة المهاجرين والصعوبات التي يواجهونها، كما اكتست الرواية بقدر من التشويق، لا سيما في تلك المطاردة بين العاشق والمستشارة الألمانية، وما الذي يمكن أن تصل إليه، وهل يمكن بالفعل أن تتقبل ذلك الموقف وكيف يتم التعامل مع هذا الشاب ومع المغتربين هناك بشكل عام. وتعكس من خلال ذلك طريقة تعامل الأوروبيين مع شعارات مثل الحرية والعدالة والمساوة وما الذي يُطبّق منها على أرض الواقع. تجدر الإشارة إلى أن الرواية وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة "القلم الذهبي" هذا العام.
"المنسيون بين ماءين" لليلى المطوع
إلى البحرين وعالمها، تأخذنا الروائية ليلى المطوّع في "المنسيون بين ماءين" (دار رشم) بتجربة شديدة الثراء والمتعة تنتقل بنا بين ماضي تلك البلاد وحاضرها، وكيف كانت علاقة أهلها القديمة بالبحر، وكيف تحوّلت تلك العلاقة بفعل التقدم والتكنولوجيا إلى صراع غريب مع الطبيعة حيث انتشر بناء الجزر الصناعية ودفن العديد من الينابيع. تعود بنا الكاتبة إلى العلاقة التاريخية القديمة للإنسان بالبحر من خلال بطلة روايتها الأولى سليمة التي تهرب من الظلم الذي يلاحقها في قريتها وتهرب إلى البحر، وتستعيد من خلالها الأساطير القديمة المتعلقة بالبحر في الموروث الشعبي العربي والبحريني، وتقدم رؤية تجمع بين الواقعي والأسطوري وبين الماضي والحاضر، فيما يتقدم السرد باحثا عن طرق النجاة من حصار التكنولوجيا في العالم المعاصر مع بطلةالرواية الثانية ناديا التي تسعى إلى لملمة تلك الحكايات ومعرفة مصائر ما حدث لأجدادها في الماضي.
من خلال فصول الرواية المتصلة المنفصلة، نتعرف الى أطراف متعددة من تاريخ البحرين وعلاقتها الشديدة الخصوصية التي جمع فيها أهلها بين ماء البحر المالح ومياه الينابيع العذبة، وكيف كانت تسير حياتهم منذ القدم بالتوازي، وبتلك العلاقة الشديدة الخصوصية والثراء مع البحر، وكيف تتهدّد تلك العلاقة اليوم بفعل التقدم الصناعي الذي يقضي على مظاهر الطبيعة الثرية ويحل محلها تلك المباني الصماء، وهل يمكن أن يتمرد ذلك البحر على كل ما يحيطونه به من عوامل صناعية قاتلة، أم تكون الغلبة في النهاية لتلك التكنولوجيا المتطورة التي تفرض حضورها على أرواح الناس وحياتهم يوما فيوم.
"دار خولة" لبثينة العيسى
نوفيلا قصيرة ، تعود بها الروائية الكويتية بثينة العيسى إلى عالم الرواية، وتعرض من خلالها مشكلة عائلة اريستوقراطية ترواح مكانها بين محاولات الاندماج في العالم الحديث الذي جلبته أميركا للكويت، لا سيما بعد غزو العراق من جهة وبين السعي للحفاظ على الهوية العربية الكويتية. ذلك كله من خلال الأم خولة وأولادها الثلاثة، الذين يمثل كل واحدٍ منهم وجها من وجوه تلك العلاقة الشائكة بالآخر، بين ناصر الابن الأكبر، وتد العائلة الذي انسحب منها فجأة، ويوسف الذي يسعى لإرضاء أمه بطريقته الخاصة، والابن الأصغر غير المبالي بكل ما يحدث حوله.
تستحضر الرواية بطريقة مكثفة، عددا من المشكلات التي كان من الممكن أن تمتد إلى صفحات عدة، ولكن الكاتبة آثرت أن تعرضها بإيجاز، فثمة علاقة ملتبسة ومعقدة بين الأم المتعلمة التي تحمل على عاتقها القيم والأفكار والتصور الخاص بالهوية وبين أبنائها الذين يعيشون حياتهم بالطول والعرض ويرون ما لا ترى، ويسعى بعضهم جاهدا إلى إرضائها ولكنها كأنها لا تراهم. بين تلك المشكلات العائلية الداخلية والعلاقة الملتبسة بالآخر لا سيما أميركا والكويت، بين الوطن والغربة، بين الحرية والاستقلال والحداثة والعولمة، كلها أفكار كبرى تشتمل عليها الرواية، وتسعى العيسى إلى لفت النظر إليها، ولكن بشكل موجز وعابر، لا شك سيبقى في أذهان القراءة طويلا.
"قرية المائة" لرحاب لؤي
لا تزال القرية المصرية قادرة على الحضور في الرواية المعاصرة، ويبدو عالمها الثري محفزا للتناول والعرض والكتابة. في روايتها الأولى ، الحاصلة على جائزة خيري شلبي للرواية، تقدم رحاب لؤي عالم القرية وما يدور فيها من أساطير تتحكم في مصائر أفرادها. تبدأ الرواية من أسطورة القرية المكونة من 100 فرد لا ينقصون أبدا، فكلما مات منهم واحد ولد آخر، ولكن نكتشف مع الحكاية أن تلك الأسطورة ليست واقعية تماما، وأن هناك من يتحكمون في القرية ويسيطرون على مقدراتها.
استطاعت رحاب أن تقدم عالم القرية من جديد، بكل ما يحتوي عليه من تفاصيل ثرية، ساحرة وآسرة، وأن تقدم في رواية قصيرة ذلك العالم المليء بالحياة والتعقيدات، سواء في علاقات أفرادهم بعضهم ببعض أو علاقتهم بالسلطة الحاكمة، سواء كانت رجال السياسة أو رجال الدين. ذلك كله بلغة شاعرية وسرد متدفق بانسيابية، فالرواية لا تحتوي على فصول مفرقة، بل تأتي كلها دفعة واحدة، كأنها تريد أن تصل إلى القارئ على هذا النحو، متماسكة وقوية.
"المسيح الأندلسي" لتيسير خلف
إلى الأندلس مرة أخرى، يأخذنا الروائي السوري تيسير خلف في روايته "المسيح الأندلسي" ليحكي عن تلك الفترة العصيبة التي عاشها الموريسكيون في أسبانيا/ الأندلس وكيف أجبروا على التنصر لكي يعيشوا بسلام. وعلى الرغم من عدد من الروايات التي تناولت تلك المحنة وتلك المرحلة المهمة في التاريخ، إلا أن خلف استطاع أن يرسم أبعادا مختلفة لشخصيات عالمه، ويقدم صورة جديدة لتلك المرحلة التاريخية، وتلك الشخصية/ بطل روايته (عيسى بن محمد)، اعتمادا على عدد من المخطوطات والرسائل الأندلسية القديمة من القرن السابع عشر الميلادي وما تلاه.
تبدأ الرواية برحلة بحث البطل عيسى عن قاتل والدته التي ماتت ضمن حملات محاكم التفتيش الشهيرة، ليتعرف من خلال هذه الرحلة الى عدد آخر من الشخصيات التي تكشف له ما خفي من تاريخه وعالمه، وما يعكس من مآسي المسلمين وصراعاتهم في تلك المرحلة التي جعلتهم يتنقلون عبر البلدان من أسبانيا إلى القاهرة، الى تركيا وإسطنبول. وفي كل مكان، يكتشف قصة أخرى وحكاية جديدة تروي تلك المآسي. تبدو الرواية وكأنها ملحمة طويلة ورحلة شاقة يخوضها البطل ويحكي من خلالها تلك الفترة التاريخية الصعبة وما جرى فيها من أحداث.