(مقالة من أرشيف الاستاذ محمد عدنان سالم ، رحمه الله، نشرت في 28/04/2011 )
1-أنظمة الحكم الأحادي في البلدان العربية التي قامت بعد عام 1948؛ كلها فقدت مسوغات وجودها ؛ بدءاً بحسني الزعيم، وانتهاء بحسني مبارك.
إن التوقيت الذي قامت به هذه الأنظمة، بالتزامن مع قيام دولة إسرائيل؛ يشي بالغرض الرئيسي من إقامتها، ألا وهو تمرير المشروع الصهيوني تدريجاً، تحت ستار مقاومته.
لقد كان المجتمع ؛ في النصف الأول من القرن العشرين، في كل أقطار الوطن العربي؛ حتى الأقطار الملكية منها، يمارس نوعاً من الحراك السياسي، وحرية الرأي والتعبير، وتداول السلطة، على تفاوت بينها؛ تبوأت سورية فيه مرتبة الصدارة، حين قدمت نماذج سياسية، أمثال: شكري القوتلي، وهاشم الأتاسي، وناظم القدسي ، وفارس الخوري، وصحافة حرة تمور بالحركة والتعدد والنقد؛ كالأيام، والرأي العام، والمنار، والمضحك المبكي..
ثم تنازل المجتمع للأنظمة العسكرية الانقلابية؛ عن حرياته التي كان يمارسها؛ أملاً منه بتحقيق شعارين طرحتهما:
أولهما: محاربة إسرائيل على الصعيد الخارجي، وثانيهما: تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية سريعة شاملة في الداخل.
ولإحكام الأنظمة سيطرتها في الداخل؛ عمدت إلى تضخيم دور الدولة، و تهميش دور المجتمع، وإسكات صوته تدريجاً؛ حتى نجحت أخيراً في إقصائه عن دائرة الفعل، باعتبار أن الدولة قد تكفلت له بحمايته، وتوفير كل احتياجاته، وإراحته من عناء كل تفكير وتدبير؛ فاستجاب لها، وقعد ينتظر.. وتحول إلى متفرج يقلب الشاشات حتى يملها..
وها هو ذا المجتمع ممثلاً بشبابه، بعد ما يزيد على ستين عاماً؛ يصحو على وقع الصدمة.
فأما فلسطين فقد تم تسليمها إلى إسرائيل شبراً بشبر، وتم محوها من الخارطة السياسية، ومن الذاكرة الاجتماعية معاً، وتم رفع أعلامها وفتح مكاتب التبادل التجاري لها في عواصم عربية وإسلامية، كما تم ترويض الشعوب على تقبل هذا الأمر الواقع، مع الاحتفاظ بشعارات ومكاتب مقاطعة إسرائيل؛ هياكل عظمية، وحبراً على ورق..
وأما التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد تم تحقيقها وتركزت الاستثمارات والمشاريع كلها في أيدي الطبقة الجديدة الملتفة حول السلطة، وتم إلغاء الطبقة الوسطى التي هي لباب المجتمع، ووجد الشباب أنفسهم أمام مستقبل مظلم غامض، بلا فرص عمل، ولا أهداف واضحة.
وهكذا لم يجد الشباب أمامهم إلا الثورة على أنظمة فقدت مسوغات وجودها.
2-نظام الحزب الواحد تجاوزه الزمن، فضلاً عن منافاته للفطرة: لم يبق في العالم- على هذا النظام –إلى جانب سورية سوى كوريا الشمالية.
لقد تهاوت الأنظمة الأحادية، وديكتاتوريات الحزب الواحد منذ الحرب العالمية الثانية، وسقوط هتلر وموسوليني، وستالين.
حتى كوبا تقوم الآن بإصلاحات للانتقال نحو التعددية السياسية والاقتصادية بعد تقاعد كاسترو.
إن ثقافة الحزب الواحد واللون الواحد مآلها الفناء، مهما تظاهرت بالتعدد، على طريقة الجبهة التقدمية التي تضم أحزاب الاتجاه الواحد، فيكون تعددها عقيماً لا ينجب، وشاذاً كتعدد المثليين، أو على طريقة حزب مبارك الوطني في مصر، وحزب بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي) في تونس؛ فلا يلبث عقده أن ينفرط لدى أول عاصفة تهب عليه.
والتعدد سنة من سنن الله تعالى التي أقام الكون عليها )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( [ الذاريات51/49]. لتكون السبيل الوحيد لنمو الإنسانية وارتقائها.
والتدافع هو السنة الأخر ى التي أقام الله تعالى عليها صلاح المجتمعات: )وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ( [ البقرة 2/251] و )لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( [ الحج 22/40].
لا يستطيع الإنسان أن يرى عيوب وجهه إلا بمرآة، فإن أراد أن يكتشف عيوب ظهره احتاج لمرآتين.
والأفكار كائنات حية لا تنمو إلا بالتزاوج.
وبارقة الحقيقة لا تنبثق إلا من احتكاك الأفكار وتصادمها.
3- حزب البعث أدركته الشيخوخة
للمجتمعات والأحزاب أعمار كالأفراد تتدرج خلالها من الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة والهرم.. ذلك ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى :) لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ( [ يونس 10/49]، والرسول صلى الله عليه وسلم في حديث " خير الناس قرني " [البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي]، وابن خلدون في نظريته عن صعود الدول وهبوطها، ومالك بن نبي في خطه البياني لدورة الحضارة التي تنخرط فيها الأمم، الذي يبدأ صاعداً عندما تتحدث الأمة بلغة الواجب، ثم يستوي عند الجيل الذي يطلب لنفسه من الحقوق بقدر ما يؤدي من الواجبات، ثم يهبط عند الجيل الذي يكتفي بالمطالبة بالحقوق والتمتع بتراث الآباء وينسى الواجبات، حتى يخرج من دورة حضارته منهكاً، يحتاج كي يعود إليها من جديد إلى عمليتي تبخير وتقطير.
إن حزب البعث، فضلاً عن مشكلته الأساسية في التفرد ورفض الآخر ونفيه، قد أدركته الشيخوخة، فلم تعد قياداته تبحث إلا عن الامتيازات والمكاسب على حساب قوت الشعب وتنميته، مصراً على دور الحزب القائد الذي قرره لنفسه.
4-النظام السوري في أزمته الراهنة؛ فقد حلفاءه وأصدقاءه، من قادة الدول كتركيا وقطر، ومن المحللين السياسيين، كعزمي بشارة، وباتريك سيل، وطلال سلمان.
5-الريادة السورية
سورية التي كانت دائماً وعلى مر التاريخ طليعة العالم العربي والإسلامي في مناهضة الاستعمار ومقاومة الاحتلال الصهيوني، تحولت إلى الريادة في الانقلابات المشبوهة. فكان انقلاب حسني الزعيم أول انقلاب في العالم العربي.
وإلى الريادة في نظام التوريث لابتكار نظام حكم جديد يمكن أن نطلق عليه اسم (النظام الجمهوري الوراثي). وهو نظام مدعاة للسخرية ، فضلاً عن منافاته لمبادئ الإسلام والرؤية القرآنية: فعندما طلب إبراهيم الإمامة لذريته، جاءه الجواب )لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ( [ البقرة 2/124]
وعندما طلب نوح النجاة لابنه من الغرق )إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي( [ هود11/45] جاءه الجـواب )إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ( [ هود11/46].
والخلافة الراشدة؛ أول تجربة دستورية لتداول السلطة في التاريخ الإسلامي لم تعرف التوريث، وكان رفضه واضحاً حين أخرج عمر ابنه من الترشح للخلافة مع جدارته لها وكفايته.
6-عطاءات الحزب الحاكم في سورية:
آ-وأد الحريات في ظل قانون الطوارئ المطبق منذ عام 1963، والأجهزة الأمنية التي استحدثت وتفرعت لتنفيذه، وترتب عليه:
-آلاف القتلى من المواطنين من دون محاكمة أو بمحاكمات صورية.
-آلاف المفقودين الذين ما زال أهلوهم ينتظرون أخبارهم؛ لتسوية أوضاعهم الاجتماعية والإرثية.
-آلاف المشردين المتلهفين للعودة إلى وطنهم، منذ عشرات السنين.
-نشر مناخ الخوف والرعب والصمت والتجسس والنميمة وانتفاء الثقة بين المواطنين بعضهم ببعض.
-غياب حرية الرأي والتعبير، وإرغام الناس على تبني رأي السلطة، وعدم معارضته أو نقده؛ حتى يكون المواطنون كلهم نسخاً متطابقة تنطق بلسان واحد.
-تكدس المعارضين من سجناء الرأي في سجون السلطة.
-فساد النظام القضائي، وغياب العدالة.
ب- إلغاء النقد
فللكلمة مصدر واحد؛ هو الحزب القائد، وأمينه الملهم، وما على المجتمع المنقاد إلا ترديدها، وإظهار الإعجاب بها، والإطناب في مدحها، من دون إهمال عزوها إلى مصدرها، وكيْل المديح له.
وعندما تسير الكلمة باتجاه واحد، ويغيب رجع الصدى:
-تفقد الكلمة فعاليتها وصدقيتها، وتتبخر في الهواء بلا رصيد على أرض الواقع والتطبيق.
-وتفقد معانيها، لتنقلب المعاني إلى أضدادها، فيصبح التمزق معنى للوحدة، والعبودية معنى للحرية، والاستئثار معنى للاشتراكية.
-ويغيب النقد؛ لتخرج الأفكار من ساحة التداول، وتضيق ساحة الثقافة، وتنبلد الأذهان؛ فلا تتقن إلا الهتاف للسلطان، وتستحكم الوصايات، وينتشر القمع والمنع، ويضمحل الإبداع، وتتسلع الثقافة.
ج-نشر الفساد؛ نتيجة لتمركز السلطة، وما يترتب عليه من استباحة لأكل أموال الناس بالباطل، وإضعاف للوازع الديني والأخلاقي، وإفساد للذمم والضمائر، وإلغاءٍ للقوانين التي أصبحت إنما تطبق على من يدفع أكثر، ويحرم منها الفقراء الذين لا يملكون ما يدفعونه من الرشوة. مما أدى إلى:
-تكدس الثروة في أيدي الطبقة المتنفذة ومن يدور في فلكها.
-انقلاب السلَّم الاجتماعي الذي كان الموظف يقف على أعلى درجاته، فكان حرياً إن خطب أن يزوَّج؛ نظراً لراتبه المضمون، وبه يفضل على التاجر الذي يتعرض دخله للربح والخسارة. فإذا به ينحدر إلى أسفل السلَّم الاجتماعي، وعليه أن يرمم دخله من الرشوة والفساد لتلبية احتياجاته الأساسية. فإن تعفف عُدَّ ذلك عجزاً منه وغباءً، ويمكن تحديد تاريخ هذا الانقلاب في المجتمع السوري بعام 1974 عام التصنيع والطفرة الاقتصادية.
-تلاشي الطبقة الوسطى، وأيولتها إلى الطبقة الثالثة.
د-العمل على إقصاء القيم الدينية، ومنع كل مظاهر التدين، وتقليص دور المسجد وخطبائه، وتشديد الرقابة على الكتاب الديني، والامتعاض من الخطاب الديني في المنتديات الثقافية، وتصنيفه في زمرة الخطاب غير المرغوب فيه. وقد تجلى ذلك كله في:
-تحديد مواعيد مقتضبة لفتح أبواب المساجد عند أوقات الأذان للصلوات فقط.
-مراقبة خطب الجمعة ومحاسبة خطبائها على ما يعدُّ انزياحاً عن الخطاب الرسمي.
-استبعاد الرموز الدينية من المحاضرة في المنتديات العامة ( معرض ربيع الكتاب نموذجاً).
-إلغاء الحدائق المحدودة المخصصة للنساء في دمشق.
-إبعاد المنقبات من الوظائف العامة.
-حظر المصليات في مراكز التسوق (المولات).
-منع جميع مظاهر التدين في المدارس الخاصة، حتى في الباصات في أثناء نقل التلاميذ للمدارس.
-إبعاد النصوص القرآنية والتراثية من المناهج الدراسية ، وتقليص حصص التربية الدينية.
هـ-علمانية الدولة: خطاب جديد أصبحنا نستمع إليه من دون مناسبة أحياناً، لتغطية كل المضايقات التي تمارسها السلطة ضد مظاهر التدين، ولاستبعاد الخطاب الديني من الساحة الثقافية، وحصره في دور العبادة، ولتجريد العروبة من بُعدها الإسلامي الملهِم.. خلافاً لقول الرئيس الراحل حافظ الأسد: " العروبة جسد روحه الإسلام".
7-سبيل التغيير:
ما خيارات المجتمع لتصحيح خطأ ارتكبه قبل ستين عاماً؛ تنازل بموجبه عن دوره شريكاً فاعلاً في إدارة شؤونه ؟!
كم من الشهداء عليه أن يقدم ثمناً لاسترداد حقوقه وحريته وكرامته؟!
ما وسائله للتغيير؟!
هل غيرت ثورة الاتصالات،ووسائط عصر المعرفة، سبل الجهر بكلمة الحق، والإفلات من قبضة السلطان الجائر؟!
ما دور المسجد؛ الأكثر التصاقاً بالمجتمع، وتأثيراً فيه؟ هل سيتولى ترديد خطاب السلطان، وإسكات الصوت الاجتماعي؛ درءاً للفتنة؟! أم سيتولى ترشيد هذا الصوت، وتبني مطالبه في مواجهة السلطان. ومنع الانفلات خارج الضوابط الشرعية لقولة الحق؟!
محمد عدنان سالم 28/04/2011