إن من أوليات عملية التغيير الشامل؛ اجتثاث ثقافة القتل من أذهان الشباب، مستعينين على ذلك بربطهم بالقرآن الكريم مباشرة، بعيداً عن الاجتهادات الفقهية المتعددة، والمتضاربة، والمصطبغة بصبغة العصور والظروف التي أنتجتها..
فالقرآن الكريم؛ يضعنا أمام ثقافة القتل، منذ ولادتها على يد ابن آدم الأول؛ في أروع عرض أدبي، يبدأ بالمشادة الكلامية بين الأخوين: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة 5/27-28].
ثم يمضي بنا النص القرآني إلى حالة الاستفزاز والغضب التي أفضت إليها المشادة الكلامية (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة 5/30]، ثم إلى حالة الندم، وتعليم الغراب للإنسان كيف يواري سوأة أخيه في الآية التالية لها.. ليصل بنا إلى العبرة المستخلصة من القصة (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة 5/ 32].
وهي عبرة تعرض لنا الجانب السلبي في (القتل) وفظاعته، والجانب الإيجابي المقابل له في (الإحياء) وبركته.
وفي سياق التوصيات المكثفة في سورة الإسراء؛ يأتي النهي عن القتل، مقروناً بحق المقتول ظلماً بالقصاص؛ متجنباً لفظ القصاص؛ مستعيضاً عنه بالتنويه بعدم الإسراف في القتل، واحتساب مصيبته عند الله تعالى؛ الذي لا بد سينتصر له (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) [الإسراء 17/33].
ثم تأتي بعد ذلك ثقافة العفو لترمم كل ما تصدع في بناء المجتمع جراء ثقافة القتل: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى 42/ 40]. و( إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً [النساء 4/ 149]. و(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة 2/ 178]، ( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة 2/ 237]، (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التغابن 64/ 14]، ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور 24/ 22].
ويتبع ذلك كله ثقافة الصفح: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر 15/ 85]، وخطابها موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، والصفح فيه رتبة أبعد شوطاً من العفو، وشرط الجمال فيه أبلغ، وأي صفح أجمل من صفح الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " اذهبوا فأنتم الطلقاء!! هكذا دون قيد أو شرط، لم يطلب منهم أن يدخلوا في الإسلام.. لم يطلب منهم أن يعتذروا عن إعاقة دعوته ثلاثة عشر عاماً وإلجائه إلى الهجرة عن مكة، وهي أحب بلاد الله إليه!!
لقد حقق يومُ الفتح أعظم ثورة ثقافية ضد منطق القوة.. فالكلمة اليوم ليست للأقوى، بل هي للأعظم خلقاً وتحضراً، وغنائم الفتح لم تكن الأموال والمناصب، بل كانت القلوب التي تسابقت للدخول في دين الله أفواجاً!!
ودخل صلى الله عليه وسلم البيت الحرام وحوله ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وأمر بلالاً فصعد فوق ظهر الكعبة وأذن للصلاة.
وعاد المسجد الحرام أولَ بيت وضع للناس مباركاً، خالياً من الأوثان، فيه مقام إبراهيم مصلى، وطويت صفحة ثماني سنوات من الصراع مع عتاة قريش، وأعلن رسول الله مكة بيتاً حراماً لا يُسفك بها دم ولا يُعضد شجر.
21/08/2014