ربما من أكثر الظواهر غرابة، شغف الإنسان الحديث بكرة القدم. الشغف الذي يتجاوز أيّ ممارسة أخرى تتصل بمحورية المنافسة، فالتاريخ يذكر لنا أن الإنسان منذ قديم الأزمان كان مسكوناً بالمنافسة، أو بمعنى اللعب الذي يتصل بالتفوق، وهو السلوك القار في طبيعة الإنسان المسكون برغبة قهر الآخر، وهذا ما يجعل من كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية على وجه الأرض، كونها استطاعت أن تختزل جملة من العناصر التي لا يمكن أن تتوفر في أيّ رياضة أخرى، فهي ربما الشيء الوحيد الذي يتوافق عليه العالم.
يتجلى في كرة القدم الوعي الجمعي بمعنى التضامن على مستوى الفريق، وجمهوره، وهذا ما يمكن أن نراه في رياضات أخرى، غير أن كرة القدم تتفوق في كونها ربما من أكثر الرياضات التي تتطلب الجمع بين التخطيط والمهارة، مع شيء من الحظ كل ذلك من أجل وضع كرة في شباك الفريق الآخر، هكذا تبدو لنا بكل ببساطة، لعبة انبثقت بلا تعقيدات كثيرة، لا تحتاج للكثير من الإعدادات أو الكُلف.
هي لعبة تتصل بالطيف الشعبي ضمن أقصى تجلياته؛ ولهذا ربما بدت وعياً يتشكل من البدء، أو من الطفولة، حيث لا يملك الكثير من الأطفال ألعاباً، غير أنه من السهل أنْ تجد فسحةً من الأرض، وأن تكور ما تيسر لك من مواد لتتحول إلى كرة تركلها الأقدام، مع فيضٍ من الحرية التي تنتج عن تفعيل الطاقة الكامنة في الداخل، فالكرة تُحاكي الحياة التي ربما لا تستقيم للجميع، لكننا نحب أن نعيشها! يذكر أليكس بيلوس في كتابه «كرة القدم: الحياة على طريقة الكرة البرازيلية» بأن كرة القدم أعجبت السكان البرازيليين الفقراء، وفضلوها على لعبة الكريكت ذات الصبغة الاستعمارية، والمرجعية الأرستقراطية، ومن هنا يمكن تفسير شعبية هذه الرياضية، التي تنسجم مع بساطة الروح، وعفويتها، بل يذكر بيلوس في كتابه، أن كرة القدم كانت جزءاً من صراع طبقي وعرقي في البرازيل، التي تعد أهم أوطان كرة القدم، حيث تظهر هذه اللعبة بوصفها جزءاً من فلسفة الشعب ومصيره، بل ينظر إليها بوصفها خلاصاً من الفقر والحرمان. على الرغم من أن كرة القدم انتقلت إلى البرازيل من خلال البريطانيين، ولاسيما موظفي الشركات، غير أنها سرعان ما أمست جزءاً من صيغ التعبير عن الذات، حيث أنشئت النوادي الكروية التي كانت مقصورة في البداية على أصحاب البشرة البيضاء، إذ كان يضطر بعض اللاعبين إلى صبغ وجوههم بطلاء الأرز كي يتمكنوا من اللعب، غير أن مهارات اللاعبين من الطبقات الفقيرة أو الأعراق غير البيضاء، ولاسيما من السود والهنود بدت استثنائية؛ فاضطرت النوادي لاستدعائهم كي يلعبوا، ومن هنا يمكن تفسير طريقة لعب الفرق اللاتينية بوصفها أشبه بالرقص، نظراً لهيمنة المهارات الفردية، حيث كان اللاعبون السود يتجنبون أي احتكاك مع لاعب أبيض حتى لا يتعرض للطرد، كما يذكر بيلوس في كتابه.
ضمن مستطيل أخضر من الأرض العشبية تتشكل نماذج من التعويض للبعض، كما الرغبة إظهار التفوق للبعض الآخر، هي الرغبة الكامنة لدى الجميع في أن تكون أفضل من الآخرين، هو نوع من التعويض الذي يلبي رغبات الشعوب، ولعل ذلك يتصل بتكوين بدائي، بنزعة من المكبوت لرغبات قهر التسلط والهيمنة، وربما للثأر، أو نتيجة الغرور، ضمن نموذج قريب مما دعاه فرويد بالطوطم، الذي على الجميع أن يقدم له الولاء والطاعة، كما البذل والتضحية، هكذا تبدو لنا كرة القدم طوطم الإنسان الحديث، ولاسيما المونديال الذي يوقف العالم لمدة شهر فنتناسى كل شيء، وننشغل بمتعة الفرجة. هذه الرياضة استكمال لنزعات كامنة لدى الشعوب في تعويض ما يصيبها من ظلم، وقهر، فلا جرم في أن يرى مارادونا في هدفيه ضد إنكلترا في مونديال 1986 بأنها صدى لحرب الفوكلاند، كما أنه لم يعتذر عن الهدف بعد خمس وعشرين عاماً، كما طالب حارس مرمى إنكلترا آنذاك شيلتون كنوع من رد الاعتبار، لكن الحارس الإنكليزي تناسى أن بلاده مطالبة بالاعتذار، لا عن هدف نتج عن كرة مستديرة، إنما عن تاريخ طويل خلّف ضحايا كثيرين.
لقد اتخذت كرة القدم في المونديال الأخير صورة أخرى من بيان الصراع الحضاري، علاوة على رغبة بخلق تمايز ثقافي، كما أنها أظهرت نوعاً من المركزية الأوروبية بشكل خاص، وكأن العقل الاستشراقي يبدو لاوعياً لا يمكن الانفكاك منه، فما زالت جملة من الاستيهامات التي ترى بأن كل ما هو خارج الطيف الغربي لا يمكن أن يُوافق المعايير الغربية، غير أن مونديال قطر 2022 كان صورة جلية لتقويض جملة من المتخيل الاستشراقي تجاه الشرق، حيث كان التنظيم، وثقافة التعامل مع الآخر، انطلاقاً من الجمع بين الحفاوة والترحيب، بالتوازي مع تقدير عميق للثقافة، والقيم المحلية، مع نزعات جماهيرية مؤيدة للحق الفلسطيني ضمن صيغة عفوية، كما تعاطفنا مع الفرق العربية، ومن ثم الآسيوية والافريقية، كجزء من تأكيد الحضور في مواجهة الهيمنة الأوروبية واللاتينية على كرة القدم. لطالما كانت مقولة ينبغي عدم المزج بين الرياضة وقضايا أخرى.
ولطالما عوقب اللاعبون الذين أعربوا عن موقف سياسي في ميادين اللعب، غير أن هذا بدا مغايراً، ولا سيما تجاه تأييد قضية لا تقترب حتى من أي قيمة إنسانية حقيقية، في حين لم تنل القضايا الأهم هذا الزخم الكبير، مع التذكير بأن لكل دولة من دول العالم حسنات وخطايا، وليس الغرب سوى تاريخ يطغى عليه اللون الأسود لقرون طويلة، وربما ينبغي النظر إلى ازدواجية هذه المعايير من منطلق ثقافة لا تغادر الأوروبيين تجاه رؤية ذاتهم بأنها متفوقة بكل المقاييس، ويمكن لهم أن يتعاملوا مع أي قضية تبعاً لوجهة نظرهم، فالقضية تبدو لنا هي أقرب إلى نموذج لغوي، وقد لاحظت هذا النموذج عندما يوجه سؤال إلى بعض الصحافيين الغربيين حول مقارنة قضية بقضية أخرى، فيجيب بأننا نتحدث عن قضية محددة، وبهذا، فهو ينطلق من وعيه اللغوي الذي يمارس الإقصاء المبني على الاختيار، والرغبة في تنظيم المقولات تبعاً للقناعات التي يؤمن بها، فيقدم قضية تافهة على قضية محورية، وهي لست قناعات بالمعنى المقبول، أو نتيجة قيم أخلاقية أو منطقية، لكنها نتاج منطلقات شوفينية شكّلها وعي تضامني يجمع الأوروبيين، لكن تجاه كل ما هو غير أوروبي، وبهذا فإن مقولة المحافظة على نقاء الرياضة، وعدم الخلط بينها، وبين قضايا أخرى قد خُرقت من قبل من دعا إلى ذلك أولاً، ونعني بعض الأوروبيين.
لقد شكلت الملاعب حالة مواجهة بدت في بعض الأحيان مؤطرة بذاتية مفرطة تجاه الدولة القومية القادرة على نبذ الآخر، والتفوق عليه رياضياً، غير أنها في النهاية ليست سوى قراءة لوعيين: ذاتي ينطلق من اللاعب الفرد الذي يتماهى مع ضميره القومي بمعنى الوعي الجمعي؛ الذي يسعى لأن يضع مجده الذاتي انطلاقاً من الاندغام مع الوعي الكلي، وهي في النهاية تترجم إلى واقعة تاريخية لغوية، وهي تحاكي بذلك ذات الإنسان في مقاومته للفناء؛ فجاءت كرة القدم كي تخلد الفائزين فرقاً ولاعبين، وبين التاريخ والكرة يوجد الحب، والخيبة، والفرح، والحزن، لكن مع الكثير من المتعة التي تعد النكهة الأجمل في كرة القدم، ولعلي هنا أستعيد ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش بعد مونديال 1986: «ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟» والآن أقول: ماذا نفعل بعد أن ينتهي المونديال؟