لا شكّ حصل كثيرًا وإن دخلت معرضًا للكتاب أو مكتبة دون أن يكون لديك أيَّة خلفيَّة عن عنوان معيَّن تنوي شراءه، ولكن يحصل أيضًا أن تقع عيناك على غلافٍ بديع يشدّ أنظارك، فتقتنيه على الفور دون أدنى تفكيرٍ بالمحتوى، فالغلاف هو أول تعارف بين القارئ والكتاب، وله تأثير ترويجي كبير على مبيعات الكتاب.
ومؤخرًا باتت أغلفة الكُتب عنصرا هاما وحيويا في شد انتباه القارئ نحو الكتاب، مما جعل أغلبية مؤسسات النشر -الحكومية والخاصة- تعتمد على الابتكار والتصميم الإبداعي لأغلفة مطبوعات، فرأينا كيف تخلت “سلسلة الجوائز” التابعة للهيئة العامة المصرية للكتاب عن التصميم الموحد التقليدي لأغلفة السلسلة، واستبدلته بأغلفه تتناسب مع الاتجاه العام في فن الغلاف.
ليس غلاف لكتاب بل لوحة فنية!
في منطقتنا العربية، تعتبر حقبة الستينات من القرن المنصرم هي ذروة تحول الغلاف من وظيفته القديمة كحماية للمحتوى وأوراق الكتاب إلى ما يشبه لوحات فنية معبرة عن فحوى ومضمون الكتاب، فظهرت على التوالي أسماء مثل: “محي الدين اللباد، جمال قطب، وليد طاهر، حلمي التوني” وغيرهم الكثير ممن حولوا الأغلفة لفن بصري معبر.
سنحاول معًا في هذا التحقيق أن نسلِّط الضوء على التغيير الحاصل في الأغلفة من وجهة نظر المختصين والعاملين في الحقل الإبداعي من مصمِّمين وفنَّانين تشكيلييّن وكتَّاب.
صنايعية الفوتوشوب
رأى المصمم والفنان التشكيلي المصري “ياسر عبدالقوي” أنّ: “أهم تطور هو دخول التصميم الرقمي، والحقيقة كان هذا الأمر سلاحًا ذو حدّين، فبقدر ما فتح التصميم الرقمي للفنان التشكيلي مجالاً أوسع في تصميم الأغلفة ومنحه أدوات عديدة مختلفة، فهو في الوقت نفسه سمح لكل من هبّ ودبّ أن يدلو بدلوه في مجال تصميم الأغلفة، وهو ما أدَّى إلى الحالة السائدة الآن من (صنايعية أو حرفيين الفوتوشوب) الذين يسيطرون على المجال، ويفتقدون إلى الحد الأدنى من المعرفة بأسس التصميم الفني كعلم، ويخبطون عشوائيَّاً قصًّا ولصقاً”.
يضيف “عبدالقوي” لمجلة آراجيك: ” من الناحية الثانية يفتقد أغلب الناشرين أو المسؤولين عن النشر للثقافة البصريَّة – وهي حالة عامَّة للناس في الشرق الأوسط عموماً – فيصبح التعامل معهم أشبه بشخصٍ يتحدَّث انجليزية شكسبير ويحاول التواصل مع شخص لا يجيد سوى جملتين من انجليزية الشوارع!” مستدركاً: “أحيانًا قد تضطرّ عمدًا لتصميم غلاف سيء الشكل أو سقيم الذوق لكي يتوافق مع ذائقة الناشر!. منذ 20 عامًا ونحن نقف أمام بائع كتب ومجلات سألتني صديقة يونانية كانت في زيارة إلى مصر: لمَ كل أغلفة الكتب المصرية سيئة الشكل؟! وغالبًا لو عادت لزيارتنا قد تسأل السؤال ذاته.
التماشي مع العصر
بيما يرى الفنان التشكيلي السوري “أكرم زافى” أنَّ: “الغلاف تشكيل غاية في الجمال، إنَّه فن بحدّ ذاته، فكلما كان الغلاف جميلاً ومميزاً فإنَّه يلفت الأنظار، وعلى حساب مضمون الكتاب نفسه، وهذا الفن تطور مع تطور فنون الطباعة في العالم العربي والغربي أيضاً، فالكثير من دور النشر في العالم يعتمدون على مصممين وفنانين لإخراج أغلفة الكتب ومنشوراتها، فمثلاً كتاب مخصص لقصص الأطفال سيكون الغلاف مميزاً وزاهياً ويلفت نظر الطفل لاقتنائه”.
ويكمل “زافى” حديثه معنا قائلًا: “تطور أغلفة الكتب جاء متماشيًا مع التطور الحاصل في التكنولوجيا وآلات الطباعة الملوَّنة والخاصة بتنضيد الكتب وتصميمها، وبتطور أغلفة الكتب تحوَّل معها الكتاب إلى عمل فني مميَّز مع الفائدة في محتوى الكتاب وما يحمله لنا من متعة في القراءة”.
سرقة العيون
فيما ذهبت الروائيَّة الفلسطينيَّة “سامية عياش” إلى أبعد مّما ذهب إليه “ياسر عبدالقوي”، حيث تقول: “رغم الكثير من التفاصيل والزخرفات في الأغلفة الحديثة، غير أنّه يمكننا حصر الأغلفة بعلاقة مباشرة بين أمرين، أولهما: المباشَرة في الإشارة إلى العنوان، حيث أنَّ الغلاف مكرر كل مرَّة، فلو على سبيل المثال لا الحصر كان اسم الكتاب: رمَّانة في القلب، سيكون الغلاف تلقائيَّاً قلب منفرط على شكل حبَّات الرمَّان! وفي هذه الحالة لا يمكن للأغلفة أن تقدَّم بشكلٍ عام أي إضافة للقارئ”.
تضيف عياش: “أما العلاقة المباشرة الثانية، فهي جذب العين، إشباع العين أوَّلاً بالألوان، ويذهب بنا هذا الأمر إلى ذات الفكرة التسويقيَّة لعلبة العطر مثلاً، العين التي تسرقها صورة امرأة أو جزء منها، أذكر أن أحد الكتَّاب أخبرني عن الغلاف المبدئي الذي أرسله الناشر، وقد وضع له صورة امرأة شبه عارية لأن العنوان يشير إلى امرأة، سوى أنَّ الكتاب ذو محتوى وطني ولا ينفع معه تسويقٌ من هذا النوع”!
العمل على مراحل
لكل دار نشر طريقتها الخاصَّة والمميَّزة لإعداد وتصميم الأغلفة الخاصة بإصداراتها المطبوعة من الكُتب والروايات، وهذا ما يحدّثنا عنه “أحمد ضيوف” الشريك المؤسس لدار كتوبيا للنشر في القاهرة، والتي تهتم بالإصدارات التراثية والروايات التاريخية وكل ما يتعلق بالأدب والفلسفة، حيث يقول: “قررنا في دار كتوبيا أن نعمل ونركّز على الألوان ضمن الأغلفة، طبعًا مع تنوّع الأعمال والمحتوى، سوى أنَّ الألوان تلك تكون علامةً فارقة، أي أننا نختار الألوان بدقَّة”.
ويكمل ضيوف قائلًا: “ثمَّة أناس يعتمدون على شراء اللوحات العالميَّة بغية الاستفادة منها في التصميم، أنّنا نعمل بشكل مختلف تمامًا، بحيث أنّنا نعمل على التصميم بدايةً من اللوحة أو الرسمة التي تكون بادئ ذي بدء جسمًا مختلفًا، ومن ثم نصمّم بقية العناصر على حدى، أي أن العمل يكون مقسَّمًا على مراحل وليس مرحلة واحدة إلى أن نصل لشكل الغلاف النهائي، حتَّى أنّنا نقوم برسم الغلاف بشكل كامل كنظرة أوليَّة أو مسودَّة، لكن في العام الحالي اعتمدنا أكثر على الألوان بشكل رئيسي كميَّزة لأغلفتنا”.
شد انتباه القارئ
ويذكر “خالد سليمان الناصري”، الشاعر والمخرج والناشر الفلسطيني ومالك دار منشورات المتوسط الشهيرة في ميلانو، دور تصميم الغلاف في ترويج الكتاب، في مقالٍ منشور له عام 2014 في موقع “ضفة ثالثة” الثقافي تحت عنوان: “غلاف الكتاب والحبّ” مجموعة ملاحظات مهمة تمدّ موضوعنا، نقتطف منها التالي:
“في المكتبة فإن الحاسم في فشل العلاقة بين القارئ والكتاب عادةً ما يكون عنصرًا أساسيًّا من عناصر الغلاف وهو كلمة الغلاف… دور تصميم الغلاف هو أن يستدرج القارئ، أن يجعله يرغب في شراء الكتاب، ودور كلمة الغلاف هو أن تجعل القارئ يشتري الكتاب أو لا. لذا يؤدّي تصميم الغلاف دورًا حاسمًا في مبيعات الكتاب. ولا ننسى أنه منذ بدأ تصميم الغلاف في التاريخ الحديث ازدادت نسبة القرّاء أيضًا، والأمثلة على الأغلفة التي كانت سببًا في رفع الكتب إلى قائمة أفضل المبيعات لا تنتهي”.
الفن البصريّ
يضعنا الفنان التشكيلي السوري الشاب “محمود شيخي” أمام نقطة وانعطافة مهمَّة في فن الغلاف الحالي، فيقول لمجلة آراجيك: “في البداية لم يكُن هناك أي اهتمام بموضوع أغلفة الكتب، فالغلاف كان يقوم بوظيفة واحدة، وهي حماية الكتاب من التلف أو العوامل المناخيَّة التي تؤذي الأوراق في الداخل، هذا طبعًا من الناحية الوظيفيَّة فقط، ولكن بعد تطوَّر تقنيات الطباعة بدء الاهتمام بالغلاف يظهر ويتبلور أكثر فأكثر”.
ويتابع “شيخي” قوله: “في بدايات القرن العشرين بدأت تظهر النظريات الخاصَّة بالأغلفة، حيث تغيّرت وظيفته بشكلٍ عام وملفت، أي الخروج من وظيفة شدّ الانتباه للقارئ أو ترجمة الكتاب إلى فن بصري إن جاز التعبير، أو لنقل تمهيدًا للكتاب، حيث اختلفت الوظائف مع اختلاف طرق العمل، وبات هناك اهتمام أكثر بالعمل الفني، وتغيَّرت نظرة القرَّاء أو مواقفهم من الأغلفة مع تطور الفن بحدّ ذاته، حيث قام كل فنان بتحقيق أسلوبه إلى حدٍّ ما”.
ينهي “شيخي” حديثه بنقطة عامّة ولكنَّها ذات أهمية، فيقول: “أغلفة الكتب لا تزال مثقلة بوظائفها وثمّة اعتبارات كثيرة يخضع لها التصميم، لعلّ أقلَّها تدخّل الـ (Logo – لوغو) أو الشعار البصري لدور النشر في موضوع مساحة الغلاف، وأيضًا الاعتماد على عنوان الكتاب منطلقًا للتصميم، كما أنَّ أغلب دور النشر هي من تضع لنفسها مقاييس فنيَّة للغلاف وتفسير العنوان بصريَّاً، بمعنى يكون هناك تقييد في أغلب الأحيان من قبل دور النشر، الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تقييد الفنان وحريَّته في العمل الفنّي للغلاف”.
اراجيك