يرى الناقد والأكاديمي التونسي د. محمد زروق أن مراكز الإنتاج الروائي تتحول ولا تثبت بحكم منطق التاريخ، وأن الرواية في المشرق العربي تعيش حاليا حالة من الاحتضار بسبب استنزاف موروثها الحضاري. وقد قضى زروق شطرا كبيرا من حياته الأكاديمية المهنية أستاذا بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، وخصص بعض مؤلفاته القليلة لتناول الأدب العماني ومنها «تجربة مبارك العامري الأدبية» و«الذاتية في أدب محمد عيد العريمي» إضافة إلى كتابيه «أثر المؤلف في السرد» و«عين الله... نظر في الخطاب القصصي القرآني»...
هنا حوار معه:
> تنعى على المشرق العربي، مصر ولبنان وبلاد الشام تحديدا، ما أسميته «النرجسية المرضية» تجاه بقية المراكز والأجنحة الثقافية العربية، وعدم إيمانه «المرضي» بالآخر المجانس... ما أسباب تلك النرجسية من وجهة نظرك؟
- عموما لا أحبذ خلق مجال تصارع بين مراكز الأدب القديمة والحديثة، وهو أمر تفاعلت معه نتاج عديد من الآراء التي جوبه بها فوز الروائية العمانية جوخة الحارثي بجائزة «ألمان بوكر» العالمية، والتي رد البعض على فوزها إلى الترجمة، ورده البعض الآخر إلى شراء الجائزة. وغيرها من الآراء الساذجة التي طعنت في الرواية وصاحبتها.
ولكن هي نرجسية موجودة، تظهر في كل مناسبة، نرجسية تسود المجال الإبداعي بشكل خاص، وكان سبب ذلك المقال الذي وصفت فيه حال بعض المثقفين بالنرجسية المشرقية عدم إيمانهم بالتحول التاريخي لمراكز الإبداع، ويمكن أن أدلل على ذلك باحتفائنا في المغرب العربي في برامجنا الرسمية وفي مشاريع البحوث على اختلاف مراتبها بالتجارب السردية والشعرية في المشرق، ولا نجد لنا صدى في بلاد المشرق على قيمة بعض الآثار الأدبية التي اكتسبت منزلة تاريخية هامة.
تجارب الخليج العربي والمغرب العربي في الرواية تحديدا هي أهم وأرقى من عديد من التجارب المشرقية، ويمكن أن تلاحظوا كذلك طرق تفاعل المشرق مع روائي مثل الحبيب السالمي أو واسيني الأعرج. على كل هي نرجسية تاريخية آن للمشرق أن يتخلص منها.
> تؤكد أن الرواية العربية «المشرقية» التي تصدرت المشهد طويلا تعيش حاليا نوعا من الاحتضار بسبب استنزاف موروثها الحضاري العيني والمتكرر، وعدم الاجتهاد في البحث عن مصادر تمثيل جديدة، في حين أن الرواية في الخليج العربي وفي المغرب العربي، تبحث عن أشكال جديدة للتحقق... كيف ذلك؟
- من الأكيد أن الرواية تمتح قوتها وألقها من العمق الحضاري ومن استعمال الرصيد الأسطوري للذاكرة الشعبية، وهي أمور استهلكها الشرق العربي ولم تعد مدهشة إلى حد ما، في حين أن معتقدات وأساطير عديدة في منطقتي الخليج والمغرب العربيين، ما زالت مكتومة ويمكن استعمالها متى سخرها روائي متميز، ذلك أن منطق التاريخ يقتضي أن مراكز الإنتاج الروائي بالذات تتحول ولا تثبت، ويمكن أن نلحظ ذلك في تحول الرواية تألقا وإبداعا من أوروبا إلى جنوب أميركا وشمالها، وإلى اليابان من بعد ذلك، وإلى المنطقة الأفريقية في اللحظة الراهنة، ولذلك قلت إن الأمر يخضع إلى منطق تاريخي في تحول الرواية.
منطقة الخليج على سبيل المثال تحوي ثقافات مختلفة، ومعتقدات متنوعة، وتواريخ تجمع بين حقب من الخضوع وحقب من المقاومة، ورفض الحال الاجتماعي والثقافي والسياسي وطبقات من المجتمع تفصل بينها مراتب ومنازل وهي ثيمات تشكل ممكنا سرديا هائلا يمكن أن يتحول إلى مشاريع حكايا، وكذا الأمر في المغرب العربي في معتقداته الأمازيغية والعربية ومعتقداته الصوفية العميقة، وهي مسائل تظهر ثقافة عربية مختلفة منابتها ومظاهرها، ومخازن من الحكايات بدأت تظهر على السطح.
> ألا تبدو رؤيتك غير منصفة بعض الشيء، خاصةً في ظل حراك روائي «مشرقي» تقوده تجارب وأصوات جديدة شديدة الحيوية والإبداع تثير الدهشة؟
- هذا لا يمنع ذاك، بمعنى أنه من الممكن بزوغ تجارب سردية في المشرق العربي تدهش وتختبر أساليب جديدة في الحكاية، لكن هذا لا يعني أن يتمسك الشرق بمركزية وهمية بها يعامل التجارب الروائية المحيطة به، والتي تفرض واقعا فنيا جديدا.
> تهاجم من يرون أن الأدب العربي منبوذ من الغرب، وإذا ما صادف فوزا عالميا فإن مرد ذلك، كما يذهبون، إلى حسابات سياسية ورشاوى ثقافية، وتؤكد أن ذلك معتقد المهزومين المأزومين... هل نعيش إذن في عالم مثالي يعطي كل ذي حق حقه بمعايير وردية، ألا تتدخل «عوامل أخرى» في تصعيد أديب ما على الساحة الدولية؟
- لا نعيش عالما مثاليا أبدا، والجوائز ليست هي الباب الذي منه يستمد الأدب منزلته، ولكن فكرة المؤامرة هي فكرة قاتلة، ولا ينبغي الانجراف وراءها إلا بالنسبة للمأزومين، الفوز في الجوائز العالمية المحترمة يفترض حدا أدنى من المصداقية، وإلا فإن مصر ستكف عن الافتخار بنجيب محفوظ بحصوله على جائزة نوبل، وهي أكبر جائزة تحوم حولها الشبهات.
ومع ذلك، فإن الجوائز الأدبية العربية يمكن أن تلحقها شبهات عديدة، ولكنها تظل مقياسا ضامنا إلى حد ما لدرجة من المقروئية، أما الجوائز العالمية بخاصة جائزة «مان بوكر» فإنها تعمل على الاقتراب قدر الإمكان من المصداقية، وأنا لا أتعجب من هذه المصداقية خاصةً في فوز الروائية العمانية جوخة الحارثي لسبب بسيط أن ناقدا هاما مثل محمد برادة قد كتب قبل فوز الرواية بعشر سنوات مقالا ذكر فيه تقريبا نفس ما أشادت به لجنة الجائزة في معرض حديثها عن رواية «سيدات القمر»، كما كتبت أنا في الزمن نفسه مقالا مبينا فيه منزلة الرواية.
> يحسب البعض لك الخروج بالأدب والنقد من التخصص الأكاديمي الضيق خلف أسوار الجامعة إلى فضاءات الواقع والمجتمع... كيف استطعت ذلك وهل ثمة رؤية أو رسالة نقدية إزاء هذا الدور؟
- نعم لي رؤية في ذلك، أعتقد أن النقد ليس من دوره أن يبقى حبيس الجامعة، ومن الضروري إحياءً للنقد ونفعا للأعمال الأدبية أن يبسط وأن يدلي بدلوه في هذه الأعمال برؤية علمية تحمل وجهة نظر العالم. وهذا الفراغ الذي تركه النقاد الجامعيون جعل الساحة الثقافية تزخر بأشباه الجهلة ممن يحسب لهم ألف حساب في نقد يقوم على الانطباع والولاءات والصلات.
درس الأدب هام جدا داخل أسوار الجامعة، ولكن مع الأسف في أغلب جامعاتنا هذا الدرس قد قتله جامعيون هم مؤدبو صبية، علمهم محدود وكذلك عملهم، ولا يرون لهم حياة إلا في أوهام تقدير الطلبة المؤقت لهم، وهم قتلة الأدب ومقبرو النقد.
درس النقد لا يمكن أن يظل حبيس أسوار الجامعة ووجب أن يخرج بما يمتلكه الجامعي من أدوات ومعارف ليعانق المجتمع، وهو الأمر الذي أسعى إليه، حتى في درسي داخل الجامعة.
> كيف ترى واقع الرواية في تونس حاليا، ولماذا يبدو شحيح التأثير في المشهد الثقافي العربي العام؟
- أولا وضع الرواية عموما في حال تساؤل، فمنطق التاريخ يقتضي أن يتحول هذا الشكل أو أن يولد شكلا جديدا، أما الرواية التونسية فهي في حال من الانتعاش، وكانت دوما في حالة من القلة الإنتاجية والكثافة التجريبية، بداية من توجهين ثريين سن الأول منهما بشير خريف في «الدقلة في عراجينها»، وسن الثاني منهما محمود المسعدي في تجربة روائية نادرة في الوطن العربي، وامتد هذان الطريقان لحد اليوم، وهنالك الآن جملة من الروائيين المهمين محليا وعربيا، منهم أميرة غنيم وشكري المبخوت والحبيب السالمي، ولكن نعود إلى هذه القطيعة الحاصلة مع المشرق وخاصةً مع مصر، فإن هذه الأعمال لا تروج معهم.
> يبدو أنك منشغل أكثر بالتنظير الأدبي مقارنة بالمتابعة النقدية للإصدارات الإبداعية الجديدة... إلى أي حد يبدو ذلك الانطباع صحيحا؟
- هو صحيح إلى حد ما، فأنا رغم انشغالي بالتنظير ومحاولة اختبار جملة من الأدوات السردية الفاعلة في دراسة الخطاب القصصي، إلا أني أجتهد في مواكبة الأعمال القصصية والروائية قدر الإمكان، وأنشر هذه المقاربات في عدد من الصحف والمجلات.
انشغالي بالتنظير لا يعطل مواكبتي لعديد الأعمال السردية الحديثة التي أواكب بعضها، فالتنظير بالنسبة إلى عامل هام جدا به يمكن أن أمتلك حادث الأدوات لمزيد فهم الخطاب السردي وبيان سماته وخصائصه.
> إذن... كيف ترى الاتهام المزمن لكم معشر النقاد بأنكم «مقصرون» في تقديم الأعمال الإبداعية الجديدة؟
- فعلا هنالك تقصير بيّن من النقاد الجامعيين تحديدا، وذاك راجع إلى جهل أغلبهم بحدود النقد وطرق إعماله، ولذلك يفضلون الموت في أوراق الطلبة أو تحبير كتب مليئة بالشكليات والنقول والأسماء التي لا يدركون أغلبها.
ولكن، ليس على الناقد أن يقدم جميع الأعمال الإبداعية الجديدة، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يقول قوله فيما يتسنى له أن يطلع عليه من أعمال أدبية، وفي هذا الجانب فإن النقد العربي مقصر، ولكن تقصيره موصول بعدد من الصعاب التي تخرج أحيانا عن نطاقه، أولها أن الحياة الأكاديمية تقتل كل نفس إبداعي نقدي وتشجع على الاجترار والتحول إلى ورقة عقيمة، الثانية أن المؤسسات الناشرة ما زالت ضعيفة ولا تتعامل مع النقد العالمي لتقديم الأعمال والترويج لها وإدراك منزلتها، وثالثها أن أغلب المؤسسات الثقافية والعلمية لا تهتم بهذا الأمر، ولذلك يكون جهد مواكبة الناقد الأكاديمي للأعمال الأدبية هو جهد ذاتي خاص.
الشرق الأوسط