تُقسِم جارتنا المُسنّة في بيروت، وبنبرة مُحيِّرة بين التباهي والذَّنْب، أنها لم تقرأ كتاباً منذ أكثر من خمسين عاماً، لكن رفّاً كاملاً في مطبخها مخصص لكتب الطبخ، وفي صدارتها كتاب "الشيف رمزي" (فيما كتب الأبراج مكانها في الكومودينة الصغيرة قرب السرير).
حزينة جارتنا على الطاهي التلفزيوني اللبناني الأشهر، رمزي الشويري، الذي توفي قبل أيام إثر أزمة قلبية. فقد أخذ معه جزءاً من مطبخها، ذاكرتها، وعاداتها التلفزيونية المندثرة أصلاً، حتى لو أنها قلما تفتح الكتب، معتمدة على ما تحفظه من مقادير "على المهاج" وأساليب طبخ، عن ظهر قلب، وبفطرة لم ينل منها تقدّمها في السن. ليس من جيلها الشيف رمزي، ليس مثل "تيتا لطيفة"، لكن هذه الأخيرة بدت ديكوراً مطبخياً آتياً من البرامج المسائية، أكثر منها رفيقة حِرفة. لكن رمزي يمكنه أن يكون ابن جارتنا البيتوتي، الذي لم يركنها على الرفّ كما تركن هي كتبه، بل رافقها إلى المطبخ، وهي سمحت لها بإضفاء لمسته "الحداثية" على عالمها.
رمزي الذي عُرف بسُمنته المحببة، حينما لم يكن مظهر السمنة جالب الهلع الصحي والإستيتيقي، ولا طارداً للمعلنين والرعاة التجاريين في زمن "البراند" والفولورز، بل الترجمة الشكلية لمهارة الشيف الذي لم يبخل بعباراته اللطيفة على المشاهدين عبر الهاتف فيما يعدّ أطباقه على الهواء مباشرة. واعتُبر النقيض من الشيف أنطوان الذي لطالما وبّخ ربّات المنازل إن سألنه عمّا يعتبر أن "ست البيت" يجب أن تعرفه، معتصماً بالوصفات الأصيلة ومعارف السّلف الصالح، رافضاً وشاتماً الهرطقة الدخيلة على الكبّة والشيش بَرَك والمُغربية، مثل رجل دين متزمت لا يرضى "الزايحة"... لكنه في النهاية انزاح، ما استطاع وواتته فيه أنفة نفسه، إلى عصر انقراض الأنبياء، فافتتح حساباته الاجتماعية الخاصة الزاخرة بفيديوهات "مأكول الهنا" أسوة بزميله الراحل.
برحيل الشيف رمزي، نتخيل حفنة التراب الرمزية، بل الأخيرة الحقيقية، تُهال على برامج الطبخ التقليدية، التي لم يسعفها تغيير الوسط الإعلامي، إلا نادراً، في مجاراة ما وُلد وترعرع في كنف السوشال ميديا، من فيديوهات و"ريلز" وصور يلتقطها الناس لصحونهم في المطاعم أو غرف السّفرة، تماماً مثل السيلفي في المصعد لإعلان فستان أو ستايل جديد للسهرة والمكتب.
كان أول فيديو طبخ يُرفع في "يوتيوب"، العام 2006، في بدايات عز هذه الشبكة الاجتماعية، لطريقة تحضير السوشي الياباني منزلياً. وبحلول العام 2010، باتت فيديوهات الطبخ الأكثر مشاهدة، وبمعدل آلاف منها تُرفع يومياً... حتى وصلنا إلى "ريلز" فايسبوك ومنشورات انستغرام، المُنتجة بعناية وتقطيع هائل السرعة، وغالباً تُشاهد بلا صوت. 85% من المستخدمين يشاهدون على"الصامت"، مكتفين بالصورة الملونة ومنظر بقبقة الزيت وقلقلة المحتويات الملونة التي تنزّ مرقة وصلصات.. والوصفة التي تشرح ذاتها بذاتها بلا حاجة لتعليق منفّذها، بلا تشويش على المشهدية، فالتعلّم هنا بالاستشعار، المتعة، والزمام في يد المتلقي.
يشرح مقال في مجلة Science Daily، أن أكثر من ثلث دماغنا مخصص للرؤية. لذلك، عندما نرى شخصاً يطبخ على الشاشة، يمكن لأدمغتنا أن تتخيل المذاق، وتتيح لنا هذه الإشارات المرئية أن نشعر بأننا جزء من التجربة من دون تجربة الطعام بالفعل.. فكيف إذا كانت الفيديوهات سريعة وكثيرة، مصوّرة سينمائية حيناً، أو بتقنية الفيديوهات المنزلية الأليفة أحياناً، قابلة للتعليق والمشاركة، الطبّاخون يسلوننا على طول الخط، وغالباً ما ننبش منهم من يحاكي آخر صيحات الموضة الغذائية التي نودّ تجربتها، من نظام "الكيتو" (الغني بالدهون لحرق الدهون!)، أو الصيام المتقطّع، أو النباتي المؤدلج بالروحانيات؟
الأرجح أن كتب الطبخ ما عادت لتتبوأ مكانة مرموقة في لوائح معارض الكتب العربية للأكثر مبيعاً. فالأكل أصبح مزاجاً آخر، ليس بحسب الذوق الطعامي فحسب، بل أهواء المشاهدة، والتعصب لطباخ/ة، دون آخرين وأخريات: جمال، خفة ظل، مُحافِظة، جريء، مُحجبة، سيكسي، بَرّي وغامض.. "الشيف الغامض" يطبخ دائماً في العراء، يرتدي قناعاً أسود، ولا يختتم فيديو إلا بعد إطعام كلبه.
الطبخ ليس "أقل" من الموضة والجنس والفنون البديلة والرياضة، تكرّس رسمياً كلذّة شاملة، لا تُختصر في ما تتذوقه الألسنة فعلياً وافتراضياً، مثلما لا يُختصر أبطال الميديا الجديدة في ما يفعلون أو يقولون أو يؤدون. الحواس كلها تتذوق. المتعة مبتدأ ومنتهى. الرغبة أوسع مدى من أي وقت مضى، وأكثر تعقيداً وبساطة في آن. الجُملة العصبية باحثة عن إثارة أودهشة هنا، ضحك الخفة أو قُربى الألفة هناك.
كما علِمنا وذُقنا.. تحوّل الأكل عموماً، وإعداده خصوصاً، حالة اجتماعية وترفيهية تتجاوز نجاح الوصفة، إلى سرد قصة، أو توليف "شخصية" لا تقل تركيباً عما تبرزه السينما أو سلاسل الدراما، وغالباً بنَفَسٍ معولم أو شديد المحلية، فهذان قُطبا التيمة، ضمانة جماهيرية. "أبو جوليا" الأردني في مطبخ بيته اللندني يتندّر بمقالب أم جوليا. والشيف عمر السوري يعتمد قالب "باب الحارة"، وغيرهما من أجانب وعرب يدمجان السياحة والسفر بالأطعمة التي تجلب لك إيطاليا وتايلاند إلى شاشتك وخيالك، وبالتالي إلى حياتك المعاصرة. المُشاهد الذي ربما لا يطبّق وصفة في حياته، يرتحل مع هؤلاء، وهجرانه لمطبخه لا يحول دون إدمانه هذه الفرجة. جارتنا أيضاً علّمتها حفيدتها على "يوتيوب"، وصار هاتفها الآن هو الصداح بدلاً من تلفزيونها.