تُلقي أزمة التضخم وارتفاع الأسعار بظلالها على النسخة الـ 55 من معرض القاهرة الدولي للكتاب، التي تنطلق في 24 كانون الثاني(يناير) 2024.
ثمة تخوفات عند المتابعين للشأن الثقافي من تراجع حركة بيع الكتب، وهم يعتقدون أنّ كثافة الإقبال، وإن تحقّقت، قد لا تُقابلها الكثافة ذاتها في الشراء.
ويأتي هذا الاعتقاد وسط مخاوف دور النشر وترقّب القراء من ارتفاع أسعار الكتب بشكل لا يحتملونه.
هذا أيضاً ما عبّر عنه رواد مواقع التواصل الاجتماعي على "فيسبوك"، إذ أبدى بعض القراء في المجموعات المهتمة بالكتب امتعاضهم من ارتفاع أسعارها؛ فكتب أحدهم ساخراً: "سأذهب لمشاهدة الكتب وليس لشرائها... حتى القراءة صعبتوها (جعلتوها صعبة) علينا".
تحدّيات
تواجه دور النشر تحدّيات جمّة هذا العام بفعل هذا الارتفاع، فالقارئ قد لا يستطيع شراء الكتب وسط أوضاع اقتصادية صعبة وخانقة.
ويأتي ارتفاع ثمنها بفعل زيادة أسعار مدخلات عملية النشر، سواء الورق أو الطباعة أو التكلفة عموماً، فقبل عامين بلغ سعر طن الورق نحو 15 ألف جنيه مصري (ما يوازي 1000 دولار آنذاك)، ولكن هذا العام تخطّى سعره إلى 60-70 ألف جنيه، ما يعني أنّ تكلفة الطباعة وحدها تضاعفت نحو 5 أضعاف هذا العام.
هذا بالإضافة الى ارتفاع سعر معاملات النشر ومصاريف التشغيل في دور النشر والتي تعود الى أزمة تعويم الجنيه المصري.
في الماضي، كان يتمّ تسعير الكتب بالجنيه المصري وتحويله إلى الدولار، ولكن الآن أصبح تسعيرها بالدولار ثم تحويله إلى الجنيه، إذ أضحى سعر "الملزمة" (وهي وحدة الطباعة للكتاب وتبلغ نحو 16 صفحة) بالدولار، بحيث يتراوح سعرها من (50- 70 سنتاً).
وعليه يتمّ تسعير إجمالي عدد صفحات الكتاب بالدولار، لأنّه لا يمكن الحساب على العملة المصرية.
ثم بعدها تقوم دار النشر بتخفيض سعره بنسبة ما للجمهور المصري.
في هذا الإطار، يقول مدير "مصر العربية للنشر والتوزيع"، وائل الملا، لـ"النهار العربي": "رغم ارتفاع الأسعار، لكن عادةً لا يخذلنا جمهور معرض القاهرة إلى حدّ كبير؛ ولكن هذا العام يشهد ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، رأينا هذا الموقف في النسخة الماضية من المعرض عندما زادت أسعار الكتب، كنا نتخوف من تراجع الإقبال؛ لكن الجمهور جعلنا نتجاوز الأزمة، بيد أن هذا العام يشهد مزيداً من الزيادة، ونتساءل هل سيستطيع الجمهور مساندتنا هذا العام من عدمه؟".
فيما يؤكّد مدير تحرير "بيت الحكمة" عمرو مغيث لـ"النهار العربي" أنّ: "ما يهمّ الناشر هو وصول كتبه إلى أكبر قدر من القراء، وكناشرين لسنا سعداء بزيادة الأسعار لأنّ التكلفة تمثل عبئاً على الناشر وعقبة أمام الانتشار السريع للكتب، إذ يشغلني أن يكون الكتاب مقروءاً بصرف النظر عن المكسب، فيهمني الشق المعنوي حتى لو مقابل هامش ربح أقل، ربما يهتم الموزعون والمكتبات بالمكسب بشكل أكبر، فالكتاب سلعة بالنسبة إليهم".
التخفيضات حل مؤقت
تحاول دور النشر التغلّب على هذه الإشكالية، وبادرت بعضها للإعلان مبكراً عن طرحها تخفيضات على مطبوعاتها، على غرار ما فعله بعض الناشرين العام الماضي.
وهذا العام، سيلجأون إلى مزيد من الخصومات في ظلّ هذه الأسعار التي كان من المستحيل تصورها قبل سنوات. وتختلف تقديرات وقرارات الناشرين بين عمل خصم على كل كتب الجناح الخاص بشكل عام، فيما سيلجأ آخرون إلى تقليل هامش الربح لبعض الكتب، وعرض كتب أخرى للتصفية.
وهو ما كشفه المُلا لـ"النهار العربي" قائلًا: "قرّرنا عمل تخفيضات كبيرة لتحريك عملية البيع، بجانب عرض الكتب ذات الطبعات القديمة بسعر منخفض، وتلك التي لم يكن لها حظ البيع رغم جودتها، أو تبقّى منها نسخ معدودة، وكذلك إتاحة خصومات على الكتب الراكدة أو القديمة، ورهاننا على هذا الشق".
بينما قال مغيث: "ستكون هناك تخفيضات بنسب متفاوتة حسب تاريخ الإصدار، بجانب تخفيضات على إصدارات جديدة، لكن ثمة إشكالية تتعلق بجودة الكتاب، فالكتاب الجيد يفرض نفسه مهما غلا ثمنه، وله جمهوره الذي ينتظره ويشتريه بثمنه الطبيعي، لكن بقدر الإمكان سنُفعّل الخصومات، خصوصاً أنّ معرض القاهرة هو أكبر تظاهرة ثقافية سنوية، ومن المهم أن تكون إصدارات دور النشر متاحة لأكبر عدد من القراء".
معاناة التسعير
تأتي معاناة دور النشر في التسعير لأنّ كلفة الكتاب المباشرة هي تكلفة الطباعة، وأي ربح يأتي من الكتاب ليس ربحاً صافياً، فهناك كلفة أخرى بينها حقوق المؤلف والتصميم وأجور العاملين ومصروفات إدارية التي ارتفعت هذا العام. وكل هذه الكلفة يشتملها سعر الكتاب ثم يتمّ خفضه للجمهور، فيحصل الناشر على هامش ربح قليل للغاية، وبعضهم قرّر الخفض إلى أدنى حدّ من المكسب، حتى يتسنى له البيع.
يوضح مدير "مصر العربية للنشر والتوزيع": "نحاول مراعاة القدرة الشرائية وقيمة الجنيه، وندرك أنّ الجمهور المصري هو القارئ الأول والأساسي، لكن الفكرة أنّ بعد الخصم ما زالت الأسعار مرتفعة بالنسبة للجمهور، لأنّ هناك حداً أدنى يستطيع أن يقدّمه الناشر للقارئ، مثلاً في العادة تكون الكتب الجديدة هي الأشد جذبًأ للجمهور، لكن يتمّ بيعها بالخسارة أحيانًا".
وثمة مخاوف أخرى تتعلق بأسعار الكتب المترجمة المتوقع أنّها ستفوق الكتب العادية، وعزا الملا ذلك، لأنّها تتحمّل تكاليف إضافية وبينها الترجمة وحقوق النشر التي تُسدّد رسميًا بالعملة الصعبة (باليورو أو الدولار).
شراء الكتب رفاهية لم تعد متاحة
استوعب الجمهور المصري بفطرته غلاء كل السلع بما فيها الكتب، فلم يعد يبدي اعتراضات كبيرة بشأنها كالسابق، لكنه قد يلجأ لشراء عدد أقل منها، وليس بكثافة شراء الأعوام السابقة؛ فيركّز على الكتب المدعومة الصادرة عن مؤسسات حكومية مثل الهيئة العامة للكتاب أو الهيئة العامة لقصور الثقافة، فتلك وجهات أساسية بالنسبة إليه.
وفي ما يخصّ كتب كبار الكتّاب، هناك طبعات حكومية وأخرى لدور النشر الخاصة، وفي الغالب هو يلجأ الى تلك الحكومية لأنّها الأقل سعرًا، وسيضع الأولويات التي يحتاجها، ولن يشتري كل ما يعجبه بل ما سيحتاجه وسيقرأه، بينما في الماضي كان جمهور المعرض يشتري الكتب بوفرة، حتى وإن لم يكن بحاجة إليها، على أن يقرأها لاحقاً أو يحتفظ بها ضمن مقتنيات مكتبته، وهذه الرفاهية لم تعد متاحة.
القارئ المصري هو الالتراس الحقيقي للناشرين،
رغم ذلك لا يعوّل الناشرون المصريون كثيراً على الجمهور العربي الذي يرتاد معرض الكتاب، وذلك لعدم وجود كثافة كبيرة منه، كما أنّ معرض الكتاب سوق مصري، وهو السوق الأهم بالنسبة للناشرين.
يشرح مدير "مصر العربية للنشر" قائلًا: "نعتبر القارئ المصري هو الألتراس (المشجع) الحقيقي للناشر المصري، والعمود الذي نرتكز عليه، لأنّ السوق المصري هو الأكبر في العالم العربي، لكن تواجهنا مشكلة القدرة الشرائية للعملة وأسعار الكتب التي قمنا بتخفيضها مرتين، كي يتسنى بيعها للقارئ المصري، فنضطر أن نلجأ للتصفية في بعض الكتب".
صناعة النشر
شهدت صناعة النشر خلال العامين الأخيرين أوضاعًا صعبة رغم ركونها صناعة رائدة في مصر، وتثير أزمة ارتفاع أسعار مستلزمات الكتب أزمة أخرى وتدقّ ناقوس التحذير لإشكالية ينبغي أن تضعها الجهات المسؤولة في الاعتبار، وهي أنّ السوق المصري يفقد جزءاً كبيراً من قوته تدريجاً، خصوصاً مع اتجاه ناشرين للسوق الخارجي، مقرّرين العمل والطباعة في الخارج، نظرًا لأنّ هناك دولاً اتجهت لتقديم تسهيلات للناشرين على كافة الأصعدة، بينما في مصر يجد الناشرون كثيراً من التقييد والتعقيدات، كما تواجههم أزمة العملة الصعبة وتحويلها عند شراء أي حقوق للكتب من الخارج".