ينبغي الإقرار مسبقا بأن الحضارة العربية الإسلامية في مجملها (بما فيها القديمة) قد عرفت بدورها الكتابة والعديد من أشكال التدوين البصري في منجزاتها العمرانية والفنية والنصية على حد سواء، ولو بأشكالها الأكثر تجريدية وروحانية، بالرغم من أن الثقافة الإسلامية تجنبت في مُنجَزِها الفني الصيغ التجسيدية للفن خصوصا، وذلك لارتباط التصوير في التصور الإسلامي بـمسألة "التحريم"، واعتبار التصوير والتجسيد وصُنع الشبيه فعلان مرتبطان أساسا بالخالق دون غيره.
وتلك كانت المهمة الموكولة، حسب التصور الإسلامي نفسه، للخالق وحده وليس للمخلوق. من ثم، جنحت الإنجازات والتدوينات الفنية الإسلامية والعربية نحو التجريد. ووجد الفنان العربي والإسلامي ضالته في التعبير عن رؤاه ومضامينها الفنية في أشكال تعبيرية أخرى مثل: الأرابيسك والزخرفة والنقش والتزيين والخط العربي، هذا العنصر الذي اكتسب بدوره روحانيته الخاصة ونوعا من "القدسية" لارتباط وجوده أولا بالنص القرآني ككتاب مقدس، ثم لما وفرته حروفه المتموجة والخالية من الزوايا الحادة، خلال عملية الترسيم والكتابة من مطواعية، ومِنْ خاصيات حركية وتعبيرية وجمالية، بحيث أتاحت كل هذه الطاقات التشكيلية التي يتمتع بها الخط العربي للفنان العربي والإسلامي كل فرص وإمكانات التعبير، دون التعارض مع التوجه أو التحفظ على مسألة التجسيد والتصوير الذي قد يطرحه التصور الإسلامي للفن.
وقبل الإشارة إلى بعض تجليات ثقافة العين والنظر، وتدويناتها ووسائل وصيغ إنجازها في الثقافة العربية الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالمكتوب في التراث النقدي العربي القديم، والمحيل على لغة البصر وأهمية الخط والكتابة في بُعديهما الجمالي والبصري، أو فيما يخص الإنجازات والمتون الإبداعية التي تحققت فيها هذه الجمالية البصرية مثل "الشعر" و"الرسالة"، لا بد من التوقف قليلا، وبشكل شديد التركيز، عند بعض ما تركتْه هذه الثقافة من آثار كتابية في تحققها التاريخي والحضاري. إذ يمكن، هنا، إيجاز وتوصيف ما تركته تدوينات الثقافة العربية الإسلامية من نماذج مكتوبة فيما يلي:
1 - "الكتابات التي وُجِدتْ على المباني والنُّصُب والجدران وشواهد القبور والأضرحة والمنابر، سواء كتِبتْ على الحجر أو الجص أو الخشب.
2 ــ الكتابات على أوراق البردي.
3 ــ المصاحف القديمة على اختلاف عصورها.
4 ــ الكتابات التي ظهرت على المسكوكات والنقود.
5 ــ الكتابات التي ظهرت في الآثار المنقولة كالفخار (الأطباق والسرج والأواني) والخواتيم والموازين والزجاج والأخشاب والأواني النحاسية والسيوف والدروع وغيرها.
6 ــ الكتابات التي ظهرت في الأقمشة والطروز.
7 ــ الكتابات على الآلات العلمية كالأسطرلاب".
من هنا، كان لا بد كذلك للثقافة العربية الإسلامية، وقبل أن تصل إليها الإمكانات الجديدة التي أصبحتْ متوفرة ومتاحة مع اختراع المطبعة في الغرب، أن تقوم بنقلتها النوعية كذلك نحو ولوج عصر الكتابة. وكان على هذه الثقافة أيضا أن تتخلص، جزئيا على الأقل، من موروثها الشفوي المتجلي أساسا في الإنشاد والرواية والخطابة، لتلج، مع عصر التدوين خصوصا، مرحلة "كتابة جديدة"، حتى وإن كانت هذه المرحلة تفترض وجود "كتابة قديمة"، فذلك "هو حالها عند أدونيس الذي يجعل الانتقال من الشفوية إلى التدوين، في الثقافة العربية القديمة، انتقالا من الخطابة إلى الكتابة. وهذا ما يشبه، على حد قول أدونيس نفسه في الجزء الثالث المعنون بـ "صدمة الحداثة" من كتابه "الثابت والمتحول"، بخصوص الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي خلال عملية تدوين القرآن الكريم: "هذه الكتابة الجديدة"، كانت إلى حد ما "الثورة الكتابية الأولى التي نشأت في وجه الخطابة، نثرا وشعرا، وهي كتابة القرآن. فالقرآن نهاية الارتجال والبداهة".
تَمّ إذن تعويض فصاحة اللسان بجمالية الخط والشكل، وجَهارة الصوت بالمداد والأشكال والعلامات المرسومة. ولم يعد الخطيب أو الملقي أو المنشد يُأخذ من لفظه ولسانه، بل أصبح الخطاط والرسام والمزين يُأخذان من أثرهما المرئي.
أما بعض الآراء والكتابات والدراسات النقدية والفكرية التي تناولت موضوع الكتابة في التراث العربي، سواء في منحاها الوصفي أو التنظيري - التأملي أو حتى التقني منه، فيمكن الاستدلال، هنا، برأي للدكتور "محمد الماكري"، إذ يقول: "نجد في التراث الفكري العربي اهتماما بالكتابة كفعالية فنية جمالية، لا يتجاوز هذا الحد إلى تقديم وصف واف للأدلة الخطية كأدلة قائمة الذات، ولا إلى الخوض النظري في القدرة التمثيلية لهذه الأدلة. والمؤلفات التي عالجت موضوع الكتابة والخط في التراث على كثرتها (رسائل، كُتب، منظومات..) لم تتجاوز في موضوعها حدود قواعد تحسين الخط وضبط الكتابة، كما هو الشأن في رسائل ابن مقلة (...) أما الصيغة الأكثر تقدما في هذا الباب، فيمكن الوقوف عليها لدى بعض المتكلمين والفلاسفة، مثل ما يقدمه "إخوان الصفا" في رسائلهم من محاولة للبحث في أصل الحروف والأشكال، وبيان النموذج الذي تمت محاكاته في وضعها واعتمادها، وكذا تفسير صيغة ترتيبها. فعند "إخوان الصفا" توجد محاولة تأويلية لأيقونية الشكل الخطي وهيئة الحروف، غير أن عملهم على العموم، يظل محكوما بتصورات فكرية واعتقادية".
وضمن نفس السياق، نقف على تصور مماثل في الكتابات الصوفية الإسلامية لـمحي الدين ابن عربي، حيث "يقدم مجال الحروف على أنه أمّةٌ من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسُل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقتناـ وعالم الحرف أفصح العلم لسنا، وأوضحه بيانا، وهم على أقسام كأقسام العلم المعروف في العرف.
ذلك ما يشير إليه أيضا "الفخر الرازي" ضمن توصيفه لحسن الكلام المتحقق في الكتابة بقوله في "نهاية الإيجاز": "مزية الكلام في الحُسن والجَمال تارة تكون بسبب الكتابة ". ثم بقوله المشير إلى حصول الأشياء وتحققها في العقل وفي النظر من خلال مراتبها الأربعة:
اِعلمْ أن الأشياء أربع مراتب في التحقيق:
الأولى: حصولها وتحققها في نفسها.
الثانية: حصول تصوراتها والعلم بها عند العقل.
الثالثة: الألفاظ الدالة على تلك الصور.
الرابعة: الكتابات الدالة على تلك الألفاظ".
أما بالنسبة للتصانيف التي تناولت موضوع الكتابة من زاوية تقنية صِرفة، "فنجد لهذا الثابت مرجعية في الكون. من ذلك مثلا ما يقدمه "القلقشندي" في "صُبح الأعشى" في سياق حديثه عن اتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار في الكتابة العربية: "إن البدء من اليمين من قبيل محاكاة سير الأفلاك من اليمين إلى اليسار، أي من المشرق إلى المغرب". وقوله كذلك فيما يخص رصد الكتابة كوجه بياني أو كصناعة: "فاللفظ والخط يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها". أو كقوله: "قيل: البيان اثنان: بيان لسان وبيان بنان، ومن فضل بيان البنان أن ما تثبته الأقلام باق على الأبد، وما ينبسه اللسان تدريه الأيام".