كان المؤرخ الأمريكي يوجين روغان قد لاحظ في كتابه «سقوط العثمانيين»، أن معظم الدراسات والسرديات التي كتبت عن الحرب العالمية الأولى، غالباً ما تجاهلت دور المناطق العثمانية، والمدن العربية، في هذه الفترة. إذ عادة ما رسمت صورة تقول، إن الحروب لم تصل لهذه المدن (مثل المدن السورية)، وإنها بقيت على هامش الصراع، ولذلك فليس هناك ما يذكر حول تاريخها في هذه الفترة. من هنا، حمل روغان على عاتقه مهمة الكشف عن تفاصيل جديدة من سيرة هذه المدن، خلال الحرب، وهو ما وجده في يوميات الضباط، الذين اخذوا يدونون تفاصيل يومية عديدة عن واقع المدن السورية.
يروي لنا مثلاً الضابط البيروتي عبد الله دبوس في مذكراته عن واقع مدينته خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف أن الجنود العثمانيين كانوا يقومون في الغالب بسرقة الطعام بسبب عدم توفره بالشكل الكافي. بعد هذا التوجه الروغاني، إن صح التعبير، بدا أن هناك موجات جديدة من الكتابات عن المدن السورية خلال الحرب العالمية الأولى، واللافت في هذا الجانب، أن هذه الكتابات باتت تكشف عن تفاصيل ومصادر جديدة لقراءة تواريخ هذه المنطقة. وكمثال هنا أشير لكتاب «المؤسسات الخيرية والحرب.. المجاعة والمساعدات الإنسانية والحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط» للمؤرخة الأمريكية ميلاني تانيليان.
إذ تعتقد المؤلفة أنه بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الإمبراطورية العثمانية قد فقدت ربع جيشها، وعانت من خسائر كبيرة بين سكانها المدنيين. وعلى الرغم من أن مدينة مثل بيروت لم تشهد قتالاً مباشرة، إلا أن التقديرات العالية لوفيات غير المقاتلين في كل من المناطق الجبلية في المدن والريف، تظهر أن حرباً أخرى كانت تحدث هناك، وهي حرب الجوع والفقر. ففي غضون أربع سنوات لقي ما يقرب من نصف مليون شخص حتفهم في سوريا الكبرى، وترافق مع تناقص إمدادات حبوب البذور، والارتفاع غير المتناسب في تكلفة المعيشة. وسرعان ما تصاعدت أزمة الغذاء إلى مجاعة شديدة. أغلقت السلطات العثمانية ميناء بيروت أمام الواردات من الخارج، ومنعت قوى الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا) جميع تجارة البحر الأبيض المتوسط تقريبا. ولذلك، ومع انطلاق الحرب، ضربت المجاعة المدينة، بالتزامن مع هجوم صامت للبكتيريا، ما فاقم الوضع في الجبهة الداخلية. بدت بيروت، مكونة من شرائح واسعة من الناس الجوعى، الذين باتوا يبحثون عن الطعام في صناديق القمامة، وكان بعض الرجال الأمريكيين المبشرين يعملون على جمع قوائم بأسماء من بقي في بعض القرى، إلا أنهم كانوا يتفاجأون بعد مرور عدة أيام بوفاة أعداد كبيرة، ما جعل قوائمهم أحيانا غير دقيقة.
تعتقد المؤلفة أنه عند الحديث عن الحرب العالمية الأولى، غالباً ما اختارت الدولة، تسليط الضوء على استشهاد مجموعة مختارة من الأعيان والمثقفين والقوميين العرب، الذين وصفوا بأنهم قاوموا طغيان الحكم العثماني. ظلت هذه الذاكرة متجذرة في أحداث زمن الحرب، فقد قام جمال باشا بإعدام ثلاثة وثلاثين رجلاً عربياً بتهمة التخطيط لمناهضة العثمانيين في بيروت ودمشق، وقد أصبح هذا المشهد العلني محور إحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى في 6 مايو/أيار.
لكن مقابل هذه الذاكرة النخبوية أو السياسية، نلاحظ أن ذكرى المجاعة بقيت موجودة تحت السطح، وهو ما نراه من خلال ذكريات الجيلين الثاني والثالث للناس العاديين، الذين بقوا يتحدثون في المقام الأول عن الجوع ونقص الغذاء، الذي شاهدوه أو سمعوا عنه خلال الحرب العالمية الأولى، ولذلك مقابل ذاكرة القمع والإعدامات في الحرب العالمية الأولى، التي تحدث عنها المثقفون كثيرا في مذكراتهم، نرى أنفسنا في هذا الكتاب أمام ذاكرة شعبية عن الحرب العالمية الأولى، بقيت تركز على عالم المجاعة، وهو ما حاولت المؤلفة دراستها، ليس فقط لتتبع خطوط الفقر والجوع، بل لأن هذا الواقع خلق واقعاً موازياً، تمثل في ظهور المؤسسات الخيرية، التي برأيها فتحت الباب لاحقاً لإعادة تشكيل المشهد السياسي لمدينة مثل بيروت، وباقي مدن ولاية سوريا خلال الحرب العالمية الأولى. تتبع المؤلفة أنشطة الإغاثة والرعاية الحربية، التي مثلت ساحات جديدة لتوليد قوة وواقع سياسي جديد، فهي تعتقد أن الإغاثة الحربية والمساعدات الإنسانية لضحايا المجاعة والمرض تضمنت معارك سياسية شرسة، بين الجهات الفاعلة الحكومية والمحلية والدولية، التي تنافست على خريطة الجوع، في سياق سياسات الإمداد، ما ساهم في تشكيل التجارب اليومية للمواطنين العاديين.
الخبز والدولة
جادل عالم الاجتماع تشارلز تيلي بأن الحرب، كلحظة عنف منظم، تشرك الدولة في أربعة أنشطة: صنع الحرب، وصنع الدولة، والحماية، والمساعدات، وهنا يعتقد تشارلز، أن الدولة في فترات الحروب لا تعمل فقط من خلال فرض العنف والقيود (الرقابة والتجنيد الإجباري) ولكن أيضاً من خلال تقديم الخدمات (التنمية الحضرية والتعليم). وتزعم المؤلفة أن الغذاء والإمدادات الصحية في أوقات المجاعة كانت بالقدر نفسه من الأهمية. فهنا نوعان من الدولة: الأولى «الدولة العصبية» التي تحاول فرض سيطرتها بالقوة، والثانية هي «الدولة الحيوية» التي تحاول تقديم المساعدات. ويبدو، حسب الكاتبة، أن الدولة العثمانية لم تعمل بعزلة عن مجتمعها، بل حاولت إعادة تشكيل نفسها، وهو ما نراه من خلال سياسات الأعمال الخيرية، وبالتالي فهي تعتقد أنه من الصعب وصف الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية بوصفها كائناً صلباً لا يتغير وفي طور الموت. حشدت جهود الإغاثة العثمانية في زمن الحرب شبكات جديدة لمساعدة المحتاجين. وقد تميزت هذه العملية بالتنافس الشرس على ولاءات المدنيين المحليين، من خلال تحويل بعض الأعيان إلى أشخاص خيريين، إن صح التعبير، بمعنى أنها حاولت تشكيل قاعدة واسعة من المؤسسات الخيرية التي يديرها أشخاص مقربون منها. تلاحظ المؤلفة أنه بعد قدوم الفرنسيين لبيروت عام 1918، اختفت صورة الدولة العثمانية الواهبة للمساعدات الخيرية، التي تشكلت خلال الحرب العالمية الأولى، وبدأت تتشكل بدلاً منها ذاكرة جديدة عن المجاعة ودور العثمانيين فيها. فهم بدلاً من تقديم المساعدات، باتوا في ذاكرة النخب الثقافية البيروتية المسبب الأساسي لها، وليست سبباً من أسباب الحرب الطويلة. فعندما دخلت القوات الفرنسية بيروت لم يكن الواقع المادي للمجاعة أمراً ملحاً فحسب، بل كان لدى الفرنسيين فرصة كبيرة
لإضفاء الشرعية على تدخلهم. بدت أعمال الإغاثة وفق تعبير الكاتبة وكأنها «حملة صليبية جديدة» تجري من خلال غزو مِعَد الناس. وقد تضمنت عمليات الإغاثة الفرنسية ثلاثة أنواع من المساعدات.
الأول المتعلق بتقديم الطعام للمشافي ودور العجزة والمصحات الطبية، والثاني الإغاثة شبه المجانية التي اعتمدت على القوائم وتوزيع البطاقات، وتمثل الثالث في محاول كبح المضاربة في السوق من خلال توريد المواد الغذائية لخمسة وخمسين متجراً من شأنها أن تبيع السلع بسعر ثابت. تقف المؤلفة في الفصل الأخير عند كتابات المثقفين اللبنانيين عن المجاعة، إذ ترى أن بعض المثقفين مثل شارل قرم (1894ـ1963) وجدوا في حضور فرنسا الانتدابي دوراً إنسانياً كبيراً لحل مشكلة المجاعة، واعتبروا ما قامت به تحريرا للبلاد، فهم من هذا الناحية مثلا لم يكونوا مؤيدين للفرنسيين فقط من باب مصالح أيديولوجية أو دينية، وإنما أيضا من باب واقع من الجوع المتفشي، ما جعل أي دولة تقدم خدمات في هذا المجال بمثابة المخلصة. وهناك من حاول إعادة قراءة المجاعة ليس بوصفها وليدة الحرب، وإنما وليدة سياسات قام بها الأتراك بشكل منهجي، وبالأخص على صعيد المسيحيين. كما ألقى المؤرخون في بعض الأحيان اللوم على شخص واحد، هو جمال باشا، في التسبب بالمجاعة. فقد سلطت النشرات الكاثوليكية بعد الحرب الضوء على جمال باشا باعتباره، سيئ السمعة، ورجلاً متعطشاً للدماء، وأن قرار التجويع اتخذ من هذا الرجل بمساعدة أحد الجنرالات الألمان، بل وصل الأمر أحيانا إلى الربط بين مجاعة لبنان وما حدث مع الأرمن، إذ كتب خليل جبران في إحدى رسائله «شعبي في جبل لبنان يهلك من المجاعة التي نظمتها الحكومة التركية. والشيء الذي يحدث في أرمينيا يحدث في سوريا». ما تعتقده المؤلفة من خلال تتبع هذه الكتابات، أن سياسات التدخل الفرنسي الإنساني لعبت دورا في تشكيل مفردات هذه الكتابات أحيانا، خاصة أن السياسات الفرنسية ركزت كثيرا على أهوال المجاعة، ومن خلال الظهور بوصفها المنقذ الذي كانت عليه واجبات أخلاقية تتمثل في مساعدة البيروتيين هؤلاء لاستعادة قوتهم. كما يمكن أن نسجل هنا، أن أهمية هذا الكتاب تأتي في كونها تكشف لنا أن الذاكرة وكتابتها خلال الحرب، لا تتعلق بالوقائع فحسب، وإنما أيضا بالمؤسسات التي تعمل في تلك الفترة، والتي تتمكن أحيانا من النفاذ لداخل هذه الذاكرة، وإعادة تشكيلها لتكون قريبة من توجهاتها وتحيزاتها الأيديولوجية والسياسية.