تخطي إلى المحتوى
حوار مع الشعراني عن معرضه الذي أقيم مؤخراً في غاليري خان المغربي - القاهرة حوار مع الشعراني عن معرضه الذي أقيم مؤخراً في غاليري خان المغربي - القاهرة > حوار مع الشعراني عن معرضه الذي أقيم مؤخراً في غاليري خان المغربي - القاهرة

حوار مع الشعراني عن معرضه الذي أقيم مؤخراً في غاليري خان المغربي - القاهرة

منير الشعراني : روح العبارة هي التي تحدد الخط الذي أستخدمه

هو الذي رأى

هو الذي عرفْ

هو الذي خبر كل شيء واعتبرْ

وفي كل شيء تبحَّرْ

سيّد الحكمة هو

عرف السرَّ وكشف الخفيَّ

وفي لوح من الحجرْ، حفر كلّ ما عانى واختبرْ

مقتطف من ثلاثية ملحمة جلجامش التي قام بصياغتها شعريًا وتشكيليًا وخطّيًا الفنان منير الشعراني

****

حين أراد معلمه أن يختبر صبره، ويتأكد من شغفه وجديته في التعلم، طلب منه أن يذهب ويكتب خمسين صفحة مكررا العبارة نفسها، وكان كلما انتهى طلب منه أن يكرر الأمر، ولم يضجر الصبي، فقد كان كل همه أن يقبله المعلم بين تلاميذه، فظل يتبع تعاليمه بلا كلل حتى تأكد الأستاذ أن منير يستحق وبجدارة أن يكون ضمن تلاميذه.

ظل منير الشعراني ينهل من علم أستاذه، وقد تعلم على يد أستاذ الخط السوري بدوي الديراني الذي فتح أمامه أبواب معرفته، لم يكن الأمر له علاقة بالخط وأصوله فحسب، ولكنه تعلم منه أيضا أن الخطاط عليه أن يكون مثقفا.. واعيًا.. له رأي، تعلم أن تلك العبارات التي يصيغها الفنان ما هي إلا موقف ورأي ووجهة نظر.

رافقته العبارة .. كانت معنى وتشكيلا هي همه الشاغل.. فمن "نـظـرَ اعـتـبَر" .. مئات العبارات التي صاغها خطا والتي استقاها من القرآن ومن التراث الصوفي والقبطي ومن الشعر، وفي كل مرة يدفع الشعراني من يتأمل لوحاته على تجاوز السطح إلى العمق "ما أبتغي جل أن يُسمى "، و"الخفيّ في الجليّ" .

ورغم أنه كثيرا ما أعاد تقديم عبارة " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، إلا أن كل عباراته متسعة برحابة الخير والجمال، وبحجم الحب والعدالة والإنسانية، ولذا فإنه بإمكانك أن تتعرف على شخصية منير الشعراني بقراءة لوحاته تلك التي ترجمها في مقولة " ما أنا إلا خطاي" .

وبمرور الوقت واتساع الخبرة انحاز الشعراني لأن يكون زاهدا على المسطح، متقشفا في استخدام اللون .. متفلسفا بالمعنى.. متبحرا بالجمال .. هو خليط من متمرد وصوفي.. إنسان خلوق مثقف واعي.. لا يميل إلى الثبات، فهو على هدوئه ورصانته في الحديث شخص متمرد على القوالب.. تمرد تكتشفه في الحديث معه عن رحلة حياته،  حيث كانت "لا" مشروعا بحد ذاته، لأتوقف كثيرا عند تعليق أحد أصدقائه على الفيس بوك حين سأله "كم من اللاءات لديك؟" ليجيبه " بقدر ما في الروح من وجع!".

أما بالخط العربي، فقد تمرد على السائد والشائع، وعمل على تطوير أنواع تقليدية من الخطوط العربية، ولم يكتف بل إنه بحث وراء الخفي والمهجور من الخطوط، تلك التي لم يصلنا منه سوى النارد، مثل الخط النيسابوري، الذي لم يعثر منه سوى على صفحتين، فما كان منه إلا أن اعتنى به واستكمله ومنحه حياة، فاستعيد عبارته البديعة التي طرحت أخضر على أحد مسطحاته "وحبوب سنبلة تجف ستملأ الدنيا سنابل".

كذلك صمم الشعراني خطوطا جديدة، منها مثلا ثلاثة خطوط طباعية لمجلة "الكرمل" الثقافية، وخط لمجلة اللوتس الثقافية الدولية، وخط theMixArabic مزدوج اللغة، بالتعاون مع المصمم الهولندي لوكاس ديغروت وكذلك خط theSansArabi. وله كراسات لتعليم خطوط الرقعة، والنسخ، والتعليق، والفارسي، والديواني، والثلث، والكوفي، وأشرف على العديد من ورشات الخط وتصميم الحروف الطباعية للهواة والمحترفين في عدد مع الدول، وقد صدرت عدة كتب مصورة تتناول أعماله.

وقد تخرّج الشعراني في كلية الفنون الجميلة بدمشق، قسم الزخرفة (شعبة التصميم الزخرفي) عام 1977. وعمل خطاطاً ومصمماً فنیاً للكتب والمطبوعات، وصمم عبر تجربته الإبداعية أكثر من 2000 غلاف كتاب، وعشرات الشعارات كان من بينها شعار المركز القومي للترجمة بمصر، وله كتابات في النقد الفني، وشارك كمستشار فني في أعمال الموسوعة العربية العالمیة، وكتب مداخل الخط العربي وأعلامه فیھا. شارك في العديد من المعارض الجماعیة، وأقام عشرات المعارض الفردية في الوطن العربي وخارجه، وله مقتنيات في مختلف أنحاء العالم، كما شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات حول الخط والحرف الطباعي العربي عربياً ودولياً.

وعلى الرغم من أنه جاب العالم، حيث اشتهر عالميا بإبداع لوحات خطية متفردة وشاعرية، إلا أن مصر لها مكانة خاصة بقلبه، فقد عاش بها ما يقرب من عشرين عاما، ومنها انطلق أول معارضه الفنية، ولاقي قبولا وحفاوة من الفنانين والنقاد وقد كتب عنه الفنان حسين بيكار عام 1990 " إذا كان لكل حياة بعث، فما يبدعه الفنان منير الشعراني بعث للخط العربي"،

ولهذه الأسباب مجتمعة، كان خبر إقامة معرضا لأعمال الفنان منير الشعراني بجاليري خان المغربي بالزمالك فرصة طيبة للقاء والحوار، خاصة وأنه يأتي بعد غياب ١٥ عاماً، إذ قدم بالمعرض الذي أقيم تحت عنوان "إيقاعات خطية" ٥٠ عملا ، ذلك العنوان الموسيقى الذي يستدعي إلى الأذهان ما كتبه بيكار في مقالة نقديّة نشرت بالقاهرة في كتيّب مصوّر عن سلسلة "نقوش" عام 1993 تحت عنوان "القلب والقالب" إذ يقول عن منير الشعراني "يملك إلى درجة الأستاذية ناحية البعد الإستاطيقى والبعد التعبيري والبعد الصوفي ويجمعها جميعاً في باقة واحدة . وهو "كمايسترو" حاذق يدرك الخصائص للحروف وإمكاناتها الآلية، يستخدم ملكته القيادية في تحريك الكلمات والحروف واختيار مواقع ظهورها واحتجابها فوق مسرح اللوحة حجماً وزمنا، وحّدة وضعفاً بحيث يعمل الخط المسترسل عمل قوس الكمان بين الآلات الموسيقية، وتعمل النقط مختلفة الحجم والعدد عمل نقرات الدفوف إذا تناثرت ودقت، أو قرع الطبول إذا غلظت أو ثقلت ... وليس بالضرورة أن تلازم النقطة الحرف التابع ملازمة الظل للجسم، بل هي تحتل مكانها من اللحن العام والتوقيت المناسب اللذين يحددهما الفنان برهافة بالغة الحساسية . ثم تعمل الألفات عمل "المصدّات" والسدود التي يتوقف عندها اللحن ليستدير أو ليتخذ مساراً آخر (Stacats) أو تقوم الحروف اللينة بدورها الانسيابي مثل القنوات التي تحمل الماء إلى جميع الأطراف دون أن تعترضها السدود (Legats)وهنا لا يمكننا أن نغفل الدور الموسيقي الذي يؤديه الحرف العربي وننتزع منه هذه الخاصية التي انفرد بها. وخاصة عندما يتجه اتجاها "مليوديا" أفقيا أحادي النغم مثل الموشح الأندلسي أو البَشرَف."

التقيت بالفنان منير الشعراني خلال ﻣﻌﺮﺿﻪ ﺑﻘﺎﻋﺔ ﺧﺎن المغربي، وﻛﺎن ﻟﻨﺎ ﻣﻌﻪ ﻫﺬا الحوار

أكثر من خمسين عاما ارتبط فيها اسمك بالخط العربي، لكنني أريد أن أعرف عن تلك الشرارة الأولى التي أشعلت ذلك الشغف الذي لم يفتر؟

كنت في الصف الثالث الابتدائي، وكنت قد أحببت الرسم والخط معا، وكانت الكتب وعناوينها تلفت انتباهي، أتذكر أن مديرة المدرسة كانت هي التي تعطينا مادة الرسم، وحين رأت شغفي بالخط نصحتني أن يصطحبني والدي لخطاط لأتدرب على يديه، وكانت إنسانة تربوية علقت لافتات لي على الحائط بالإدارة، فكان هذا عامل تشجيع كبير.. أما في مادة الرسم، كانت تعطيني درجة أكبر من ابنها الذي كان رفيقي بالمدرسة، وكان يحب الرسم أيضا، والتحق معي بكلية الفنون الجميلة لاحقا، بعدها اصطحبني والدي لأتعلم عند الأستاذ بدوي الديراني، وهو أحد أعلام الخط بسوريا.

ولكن ألا ترى أنه من الغريب أن ينجذب طفلا بهذا السن لتعلم الخط بهذا الشغف في ظل ما نراه من فرار الأطفال من الكتابة كعبء ثقيل ؟

الطفل بحاجة لأن يجد ما يلفت انتباهه، فالسياق الذي ينشأ به الأطفال يحببهم أو ينفرهم في الكتابة والقراءة، وقد التحقت بالكتاب في مدينتا الصغيرة، وبعده الحضانة، تعلمت خلال تلك الفترة القراءة والكتابة، وأصبح عندي نهم للقراءة منذ طفولتي المبكرة، كذلك كانت هناك كراسات للخط في المدارس، اليوم الأطفال لا يحبون المطالعة نتيجة تدهور مستوى التعليم عموما مع الأسف، فأيام طفولتي كانت هناك حصصا للموسيقى مثلا، وكان لدينا كورال بالمدرسة وغير ذلك، الآن ما الذي يتعلمه الطفل؟؟ هذا سؤال مهم لكنه يجيب على سؤالك.

كثيرا ما تتحدث عن دور الأستاذ بدوي الديراني في حياتك، أريد أن أستعيد معك الآن ذكرياتك معه؟

بالنسبة لي، لم يكن الأستاذ بدوي معلما للخط فقط، كان قيمة وقامة، كان له دور كبير في تشكيل وعي بالخط، لكنني كذلك تعلمت منه قيما كبيرة منها أخلاق الفنان وإخلاصه لعمله، وقد اختبر صبري طويلا قبل أن يقبلني بين طلابة، حتى يدرك أنني مستحق لتعبه ومجهوده، فلم يكن يأخذ نقود مقابل ما يقوم بتعليمه.. ولذا كان حريصا أن يكون طلابه لديهم شغف حقيقي بتعلم الخط.

تعلمت من الأستاذ كذلك أن أعرف القواعد تمام المعرفة قبل أن أكسر تلك القوالب، فلا يمكن التطوير لمن لا يدرك الأسس، كان دائما ما يخبرني تعلم القواعد ثم أفعل ما يحلو. وقد كان الأستاذ بدوي الديراني متسع الثقافة، وهو أمر مهم لأي خطاط، فالبعض لا يهتمون بالثقافة، حتى أن بعضهم ليس لديه معرفة كافية بتاريخ الخط، تلك الثقافة هي التي تصنع الفارق بين النساخ والفنان.. من يقوم بالنقل والتكرار ومن يجدد ويترك فارقا ..

ولشدة ما أثر هذا الأستاذ في حياتي، فلم أجرؤ أن أضع توقيعا على أعمالي طوال وجوده على قيد الحياة، حتى مع بداية عملي الاحترافي مع المطابع وغيرها، شعرت أنه من غير اللائق أن أوقع عملا باسمي في وجوده حتى توفي في 1967، بعدها بدأت أوقع على أعمالي في مجال التصميم، فلم أكن بدأت حينها مشواري مع تطوير الخطوط، لكنني كنت مشغولا وقتها بسؤال لماذا يسير الخطاطون على خطى من سبقهم دون تطوير، ولم يكن برأسي أفكار حينها واضحة حول الإضافة.

هل كان الخط هو الدافع لك لدراسة الفنون الجميلة وبالأحرى تخصص التصميم الجرافيكي؟

الحقيقة أنني عندما ارتدت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة اخترت قسم التصميم الجرافيكي لأنه أقرب التخصصات للتعامل مع الخط العربي إذا أردت التجديد فيه، وعندما التحقت بكلية الفنون بدأت أربط بين الجماليات العامة للفن والجماليات الخاصة للخط العربي، وكنت أعتمد على الخط في عدد من المشاريع فكنت أشكل منه التصميم الأساسي.

ولكن متى بدأت عرض لوحاتك بالخط العربي؟

كان ذلك بالقاهرة في عام 1987، ولكن ذلك التاريخ سبقه على الأقل عشر سنوات من التحضير والتجهيز، فبعد تخرجي لوحقت في سوريا لأسباب سياسية، وخرجت منها إلى لبنان وقررت العمل بالتصميم ولكن بالمجال الثقافي تحديدا، فلم أكن أحب أن أعمل بمجال الدعاية والإعلان، فاتجهت لتصميم أغلفة الكتب، واللوجهات والبوسترات، واتخذت من تصميم أغلفة الكتب وسيلة لتجريب تطويرات في الخطوط، لأن الغلاف يتيح ذلك سواء في كتابة عنوانه أو تشكيل الغلاف ككل، فالغلاف بالنسبة لي لوحة لابد أن تكتمل عناصرها الفنية، وكنت دائما حريصا على أن يكون لي وجهة نظر في تصميم الغلاف، فهو ليس مجرد صورة وعنوان، وإنما لابد من تحقيق رؤية بصرية متكاملة من خلاله ترتبط بروح الكتاب.

هل سبق لك وأن رفضت تصميم أغلفة بعض الكتب؟

بالطبع، ولكن ليست تلك التي أختلف معها فكريا وإنما تلك الكتب الصفراء ذات المحتوى التافه، فلطالما كان عندي استعداد لتصميم الكتب التي أختلف معها فكريا، فاشتبك معها بوجهة نظري من خلال الغلاف، وقد كنت معروفا للناشرين في مصر كمصمم أغلفة من بيروت، وذلك حتى قبل أن أتي إليها واستقر بها، إذ كانت بيروت وقتها مركزا قويا في عالم النشر في المنطقة العربية، وكانت تقوم بتصدير الكتب للعالم العربي كله، واستمر الحال هنا في تصميم أغلفة الكتب لمختلف الجهات وكذلك الهيئات الثقافية.

هل ترى أن هناك كتب شكلت نقطة محورية في مسيرتك ؟

لا أستطيع أن أقول أن هناك كتاب أو تجربة بعينها أحدثت نقلة نوعية، إنما هي مسيرة ممتدة من العمل المستمر، فمثلا إذا عدنا لتصميم الأغلفة كنت أحرص أن يكون الغلاف بكل عناصره ملفتا، يشد عين القارئ، وكنت أضع في اعتباري مراعاة كل الأمور بما في ذلك ظروف العرض، فعندما جئت لمصر كانت هناك عوامل أخرى وضعتها في الاعتبار فيما يتعلق بعملية التصميم، فبعض المكتبات كانت تعرض الكتب بفرشة على الأرض، وهنا كنت أفكر أن الغلاف يجب أن يشد بصر القارئ ليجعله يرفعه على الأقل حتى يرى محتواه، فلا يمكن أن أصمم غلاف ينفر القارئ، لابد من أن يجذبه الغلاف، ليس بمنطق الإثارة التي تقوم به الصحافة، ولكن بمنطق ثقافي، فتصميم غلاف الكتاب مرتبط بصناعة كبيرة، كانت تلك الفترة ثرية عملت خلالها كثيرا على التطوير في شكل الخطوط، لنقل كانت فترة لاختمار أفكار التطوير برأسي، كذلك ساعدني عملي بالصحافة الثقافية فقد جعلني أصمم أحرف طباعية.

كيف قدمت لنفسك إذا كفنان خط في معرضك الأول الذي أقيم بالقاهرة؟

قدمت في هذا المعرض أوائل الخطوط التي طورتها، وهي لم تزد كثيرا بعد ذلك، ولاق المعرض قبولا لدى الخطاطين والفنانين التشكيليين والنقاد، وقد كان الرهان بيني وبين نفسي أن أقدم فن يمكني الدفاع عنه أمام كل تلك الفئات، أتذكر وقتها أن الأستاذ محمد عبد القادر كبير الخطاطين ذهب لمدرسة الخطوط ودعى الأساتذة والطلاب لمشاهدة معرضي، كذلك التقيت بالأستاذ حسين بيكار وأحبني وأحببته وزار معارضي وكتب عن أعمالي مواد أخجلني جمالها، تكلم في إحداها من منظور الرسام والموسيقي وركّز فيها على الموسيقى البصريّة فيها.

في رحلتك لتطوير فن الخط العربي، كنت دائما رافضا لربط الخط بالدين، كيف ترى هذا الأمر؟

نعم أرى أن الخط ليس مرتبطا بالدين لكن هو موضوع أشمل، للأسف الناس لا تفصل بين الخط والكتابة، فالكتابة بكل اللغات هي مسألة توصيلية تتعلق بالأمور الدنيا الخاصة بالتواصل أو التوثيق، بينما فن الخط هو مرحلة أرقى لا يرتبط بالتواصل بقدر ما يرتبط بالجمال، لذا من كانوا يقومون بنسخ الكتب كنا نطلق عليهم نساخين وليسوا خطاطين وقبل الإسلام كان هناك عدد محدود ممن يجيدون الكتابة، ولا أدل على ذلك مما وصلنا من السير أن الرسول صلى الله عليه سلم فرض على الأسرى في غزوة أحد تعليم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة لتحرير أنفسهم، وهنا بدأ الاهتمام بالكتابة والتدوين وليس بالخط كفن، ولذا حين يقال أن كتابة القرآن هي التي طورت الخط أرد أن هذا كلام غير علمي، فالتطور الأول حصل في العصر الأموي حين أراد عبد الملك تعريب الدواوين، ثم بدأ التطوير الجمالي بعد ذلك عندما أًصبح هناك اهتمام بالعمارة، فقد ظهرت أنواع عديدة من الخط العربي على درجة عالية من الجمال نتيجة التعامل مع الحجارة أو مع الطين أو مع الجص أو مع الخزف وغيرها، مما يؤكد أن تطور فن الخط مرتبط بالبناء الحضاري للدولة.

ودعيني أؤكد أن الخط العربي قبل العثمانين لم يكن مؤطرا بالإطار الديني، فبالمطالعة المستمرة في تاريخ الخط والتعرف على الأنواع المختلفة تمكنت من اكتشاف العالم الأوسع للخط العربي، وهو أوسع بكثير من العالم الذي صوره العثمانين الذين تركوا ستة أنواع من الخطوط اعتبروهم هي الأنواع المعتمدة، في حين كان هناك مجموعة كبيرة من الخطوط - لاسيما الخطوط الكوفية- بطي النسيان، عندما بدأت بالبحث عن المراجع والمصادر والعربية والأجنبية وتاريخ الفن اكتشفت أن هناك عالم ثاني مسكوت عنه، وكان لابد من إعادة الاعتبار لهذه الخطوط بتطويرها والعمل عليها.

قدمت معارضك بالعالم العربي وكذلك بمختلف دول العالم الغربي، هل يختلف تلقي العمل بمعرفة اللغة العربية؟

الخط العربي بصريا هو فن تجريدي سواء من سيراه عربي أو أجنبي، المتلقي العربي يفكر بالمكتوب قبل أن يفكر بالشكل، فهو يهتم المعنى بالأول ثم التشكيل، أما المتلقي الأجنبي فقد تعود على تلقي الفن بصريًا، وسواء أدرك المتلقي أو لم يدرك ما هو مكتوب فعليه أن يتعامل مع لوحة الخط كعمل فني قائم على التكوين وعلى العلاقات الجمالية والبصرية.

تعود للقاهرة مرة أخرى بعد خمسة عشر عاما من الغياب لماذا اخترت عنوان "إيقاعات خطية" لمعرضك؟

ربما ليست هي المرة الأولى التي أسمي معرضا بهذا الاسم، فقد سبق وأن أطلقت هذا العنوان على أربعة معارض سابقة على الأقل، وأن أرى أن الخط به موسيقى بصرية، وحين أعمل على اللوحة لابد من تحقيق الإيقاع والتناغم الذي يشبه الموسيقى، وأنا أعول على النقاط الحمراء لتحقيق التوازن الإيقاعي، وهي مفردة مهمة جدا أحيانا أحركها من موقعها قليلا حفاظا على الإيقاع، فالنقاط بشكلها المستدير ولونها الأحمر تحرك العين معها عبر المسطح.

ولكن مع تنوع الخطوط واختلاف العبارة، كيف تلتقي العبارة بالخط الذي تعيش معه على المسطح؟

أولا كل العبارات كما ذكرت تحمل جزءا من رؤيتي في الحياة، وأنا اختار العبارات بعناية لتعكس ما أفكر به بعمق، وتتباين المصادر التي استقي منها تلك العبارات ما بين الشعر والنثر والأحاديث والتراث الصوفي والكتب المقدسة وحتى الأعمال الفلسفية.

وأنا أبدأ باختيار العبارة في تلك اللحظة التي أشعر أنني يجب أن أتعامل معها، وروح العبارة هي التي تحدد الخط الذي أستخدمه، إذ اختار لها الشكل الأكثر ملائمة من خلال إحساسي أي نوع من أنواع الخط يحمل القيمة التعبيرية التي تتناسب مع هذه الفكرة، فمثلا العبارات الحاسمة يلزمها خط قوي وصارم ، العبارات التي تتحدث عن العاطفة أو الحب تحتاج لخط أكثر ليونة، بعد ذلك أبدأ بعمل اسكتشات ثم اختار أحدها، ثم أقوم بتنظيم العلاقات بما يتناسب مع توجهي الجرافيكي أو البصري، لأطرح تساؤلا لنفسي ماذا أريد من هذا التشكيل وما هي الأشياء التي أريد أن أوصلها من خلاله تضيف للعبارة بصريا معنويا وجماليا، أما عن اختيار الألوان فقد تطور كذلك عبر الزمن، فقد كنت أكثر في استخدام الألوان ثم بدأت أختزل بها، أصبحت أعتمد على التقشف الفعال أو التجريد إلى أقصى الحدود لذا لا ألجأ إلى الزخرفة في أعمالي، البطل دائما هو الخط .

فمثلا نجد في هذا المعرض عبارة "عملك مردود إليك" قدمتها بالخط الكوفي التربيعي وبالأصل يقال اسمه شطرنجي، مع التعديل في نسبه، وهو أحد الخطوط الذي عانى من الإهمال ولم يكن أحد يتعامل معه وقد قدمته في شكل دائرة رغم أنه لا يستخدم معه دائرة، لكن هذا التشكيل يضيف معنى للعبارة، هنا يكون دور الفنان المطور خلق شخصية للخط. كذلك نجد عبارات بالخط المغربي وهو خط مرسل بالقلم وبشكل سريع وليس له قواعد ثابتة وقد درست نماذج كثيرة منه قبل أن أوظفه في أعمالي.

أما عبارة "ما أنا إلا خطاي" فقد قدمتها بالخط النيسابوري، ولهذا الخط حكاية، فلم نستطع أن نحصل على أبجدية كاملة له ، وقد عملت ما يقرب من 50 عاما على تطوير هذا الخط منذ عثرت على صفحة منقولة من مصحف قديم (اختفت آثاره!؟) بهذا الخطّ نَقَلها ونشرها الخطّاط المعلّم محمّد ابراهيم في مجلة "فكر وفن" الألمانية عام 1971، وهي لا تحتوي على الحروف المفردة كلها ولا على حالاتها في المواقع المختلفة من الكلمات، عدا عن أنها أتت في سطور لا تركيب فيها، فعمدت أولاً إلى استكمال الحروف المفردة ثم في حالاتها المختلفة في الوصل والقطع بعد تأمّل المنطق الجماليّ الذي يميّزها ويمنحها سماتها، ثم قمت بتطويرها وإعادة صياغة أشكال كثير من حروفها كالعين والسين والدال والقاف الوسطى، والهاء والكاف، وبعد ذلك عمدت لأول مرّة إلى توظيفها بشكل تكوينات وتراكيب، ثمّ اختبرتها على كثير من أغلفة الكتب ثم في عشرات اللوحات التي عرضتها في أول معرض لي في أتيليه القاهرة عام 1987 وما تلاه من المعارض، لذلك أطلق عليه بعض المهتمين المتابعين: نيسابوري الشعراني.

 

المصدر : مجلة الثقافة الجديدة