نفوذ واسع
وفي الدولة العباسية الثانية؛ بلغت الجارية شَغَب (ت 321هـ/933م) -وكانت أم الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت 320هـ/932م)- من النفوذ والتحكم ما جعلها في سنة 306هـ/918م تأمر "قهرمانة (= مديرة أعمال/كاتبة خاصة) لها تُعرَف بـ«ثَمَل» أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة، وأن تنظر في المظالم التي تُرفع إليها في القصص (= الشكايات)، ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء"؛ كما في ’البداية والنهاية’ لا بن كثير.
وفي ’المنتظم’ لابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) أنها "كانت لها أموال عظيمة تفوق الإحصاء، كَانَ يرتفع (= يدخل) لها من ضِياعها في كل عام ألف ألف دينار (= اليوم 200 مليون دولار أميركي تقريبا)، وكانت تتصدق بأكثر ذلك، وكانت تواظب على مصالح الحاج (= الحُجّاج)، وتبعث خزانة الشراب (= الأدوية) والأطباء معهم، وتأمر بإصلاح الحِياض" التي يستقي منها الناس في طريق الحج بين بغداد ومكة.
وقد دفعت ضريبةَ نفوذها محنةً دامية قام بها القاهر بالله (ت 339هـ/950م) الذي أعقب ولدها في الخلافة، كما ترددت أصداء سيطرتها على عاصمة الخلافة العباسية بغداد في الغرب الإسلامي وتحديدا الأندلس الأموية.
فكانت هيمنتها على صناعة القرار سببا في إعلان أمير الأندلس القوي عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م) نفسه خليفة للمسلمين أجمعين أواخر سنة 316هـ/928م. يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: "فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق وظهور الشيعة العُبَيْدية (= الفاطميون) بالقيروان؛ رأى أنه أحق بإمرة المؤمنين".
وتتواصل الأدوار الخطيرة التي أسهمت بها النساء في أروقة الخلافة العباسية حتى تصل إلى حد الانقلاب على خلفاء وتنصيب آخرين. ومن ذلك الخطة الماكرة للانقلاب على الخليفة العباسي المتقي لله (ت 357هـ/968م)، وتنصيب المستكفي بالله (ت 338هـ/949م) مكانه.
فقد رسمت خطة ذلك الانقلاب وأشرفت على تنفيذها بنجاح إحدى نساء بغداد كانت "تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهِمَة..، فلمّا تمت للمستكفي الخلافة غيّرت اسمها وجعلته «عَلَم»، وصارت قهرمانة المستكفي واستولت على أمره كلّه"؛ طبقا للمؤرخ ابن مسكويه (ت 421هـ/1030م) في ‘تجارب الأمم‘.
وفي أقصى الشرق الإسلامي أيام الدولة السامانية؛ يخبرنا ابن الأثير -في ’الكامل’- أن والدة الأمير نوح بن منصور الساماني (ت 387هـ/998م) "كانت تحكم في دولة ولدها، وكانوا يصدرون عن رأيها" في تدبيرهم لشؤون المملكة.
وقريبا من الدولة السامانية مكانا وزمانا؛ كانت السيدة والدة مجد الدولة البويهي (ت 419هـ/1029م) في عاصمة البويهيين بالرّيّ (طهران اليوم) "تدبر المملكة وترتب الأمور"، وإليها يرجع رجال الدولة من الوزراء والكتّاب "في تدبير المُلك وعن رأيها يصدرون.. في مباشرة الأعمال"؛ كما في ’الكامل’ لابن الأثير.
وحين شبّ ابنها مجد الدولة عن الطوق وأفسدته حاشيته عليها فأراد أن ينقلب عليها؛ خاضت ملحمة بطولية حتى أقصته عن الحكم سنة 397هـ/1008م، وأجلست ابنها الثاني الملقب "شمس الدولة" مكانَه، ولما تغير هو الآخر عليها لمرض أصابه أبعدته عن السلطة، ثم "عزمت على قبض شمس الدولة فهرب" إلى خارج البلاد؛ طبقا للمؤرخ الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ’مرآة الزمان‘.
ويصف سبط ابن الجوزي كفاءة أسلوب هذه المرأة في إدارة الحكم؛ فيقول إنها "ساست السيدة المُلك ودبّرت الأمور أعظم من الرجال، وكانت تجلس من وراء ستر خفيف والعارض (= قائد الجيش) والوزير جالسان بين يديها يخاطبانها وتخاطبهما، وهما ينفذان الأمور".
تقليد مستجدّ
وعلى غرار مناطق عديدة من المشرق الإسلامي؛ عرفت بلاد المغرب مشاركة نسوية لافتة في شؤون الحكم إدارة ونفوذا، ولعل مما شجع على ذلك ما عُرف به الملوك الفاطميون من انتهاج سياسة عملية نفعية (براغماتية)، كان من ملامحها الانفتاح على حكم النساء في أطراف دولتهم، والسماح به ما دام يمنحهم التبعية والسيطرة على البلاد، ولا سيما في الغرب الإسلامي والجنوب باليمن.
ومن النماذج المبكرة لذلك في بلاد المغرب، وتحديدا في دولة بني زيري الصنهاجية بتونس أيام كانت إمارة تابعة للدولة الفاطمية بمصر؛ ما امتلكته من نفوذ سياسي قوي الأميرةُ أم ملّال بنت المنصور بن بُلُقِّين ابن زِيري الصنهاجي (ت 414هـ/1023م).
فهذه السيدة لم تكتف بأن تكون شريكة في الحكم لأخيها أبي مَنّاد باديس نصير الدولة (ت 406هـ/1016م)، بل سعت أيضا لبناء ما تتطلبه تقوية نفوذها داخليا من روابط سياسية خارجية، أي أنها كانت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية موازية ومكافئة -إن لم تكن أقوى- لتلك التي يحوزها أخوها الأمير!!
فالمؤرخ ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ/1297م) يخبرنا -في ’البيان المُغْرِب’- أنه حين "أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم" بأمر الله (ت 411هـ/1021م) خليفة الفاطميين بمصر، وقد كان يدين له بالتبعية السياسية؛ وجهتْ أخته السيدة أم ملّال "إلى السيدة أخت الحاكم (= ست المُلك/سيدة المُلك بنت العزيز بالله الفاطمي توفيت 415هـ/1025م) هدية أيضا" لما كان لها هذه المرأة من حضور قوي في تدبير الدولة الفاطمية؛ كما سنرى.
وحين توفي أخوها الأمير نصير الدولة "خرج إليها المنصور بن رشيق (والي القيروان ت بعد 407هـ/1017م)، وقاضي القيروان والمنصورية وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين، فعزَّوْها في أخيها". وبعد تولي ابن أخيها الصنهاجي (ت 454هـ/1065م) "دخل الناس يهنئون السيدة بولايته".
واستمر احترام رجال الدولة الصنهاجية في تونس للسيدة أم ملال حتى لحظة تشييعها إلى قبرها؛ فحين مرضت مرض موتها كان "شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فيجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها ثم ينصرفون"، وعندما توفيت "صُلِّي على جنازتها بالبنود (= الرايات/الأعلام) والطبول والعماريات (= هوادج النساء).. [والجميع] بحال من التشريف لهذه الجنازة لم يُرَ لمَلِكٍ ولا لسُوقةٍ (= عامة الناس) مثلُها"؛ طبقا لابن عذاري المراكشي.
وتقودنا العلاقة السياسية التي أنشأتها هذه الأميرة الصنهاجية مع السيدة إلى الكشف عما كان لهذه السيدة من نفوذ وهيمنة بالغة في أروقة صنع القرار في عاصمة الدولة الفاطمة القاهرة، حتى إنها أنشأت لها إدارة موازية لإدارات الدولة الرسمية كانت تُعرف بـ"دواوين السيدة ست الملك"؛ كما يخبرنا المؤرخ الدولة الفاطمية المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘اتِّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء‘.
تدخّل حاسم
وحين تغيرت أحوال أخيها الحاكم بأمر الله وزاد ظلمه وإرهابه للناس شكَوْا أمرَه إليها لما يعلمونه من نفوذ كلمتها عنده، فما كان منها إلا أن "وعدتهم إحسان التدبير في كفّ شره، وإجمال النظر في أموره وأمره، ولم تجد فيه حيلة يُحسم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه..، وأعملت الرأي في ذلك وأسرّته في النفس إلى أن وجدت الفرصة متسهّلة فابتدرتها..، ورتبت له مَنْ اغتاله"؛ حسب رواية ابن القلانسي التميمي (ت 555هـ/1160م) في ’تاريخ دمشق’.
ويفيدنا المقريزي بأن ست المُلك بعد اغتيالها لأخيها الحاكم قررت تنصيب أحد أبنائه الصغار مكانه، فأمرت رجال الدولة بـ"أخذ البيعة للظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم (ت 427هـ/1037م)" الذي كان عمره آنذاك 16 سنة. وبعد أن استقر لها الأمر بما أرادته "قتلت جميع من اطّلع على سرها" ممن أشركتهم معها في التخلص من أخيها!!
وحسب ابن عذاري المراكشي؛ فإن ست المُلك بعد ذلك "ضبطت المملكة وقوّمت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار (بن محمد الملقّب بخطير المُلك ت 412هـ/1022م) فُوِّض إليه الأمر في النظر في الدواوين والأموال والكتابة وغير ذلك من خدمة الخلافة، فأمرت بقتله فقُتل. وباشرت تدبير المملكة، فلا ينفذ أمرٌ -جَلَّ أو قَلَّ- إلا بتوقيع يخرج عنها بخط أبي البيان الصقلي (ت بعد 411هـ/1021م)"، وكان كبير مماليكها.
ويقدم لنا المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- خلاصة رؤيته للحقبة التي استقلت بها ست الملك بتصريف شؤون الحكم؛ فيقول إنها "دبرت أمور الدولة بعد فقد أخيها الحاكم بأمر الله خمس سنين وثمانية أشهر، أعادت فيها للمُلك غضارته، واستردّت بهجته، وملأت الخزائن بأصناف الأموال، وقلدت الأكفاء جلائل الأعمال، واصطنعت (= استقطبت) الرجال"!!
ثم استمر النفوذ النسوي في دولة الفاطميين مع السيدة رَصَد النوبية (ت بعد 480هـ/1086م) والدة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بن الظاهر (ت 487هـ/1094م)، الذي ارتقى عرش السلطة وهو في السابعة من عمره سنة 427هـ/1037م، فكانت والدته "متغلّبة على دولته، وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي (= الجنود المماليك) من الأتراك للتغلّب على الدولة، فمَنْ استوحشت منه أغْرَتْ به المستنصرَ فقتله"؛ وفقا لابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في تاريخه.
وعلى عكس ما اتسم به عهد تحكم ست الملك من استقرار وازدهار في الدولة؛ فإن تجربة السيدة رَصَد في السلطة لم يكتب لها التوفيق إذا ما استثنينا السنوات التسع الأولى، التي استعانت فيها بوزير ست المُلك القوي أبي القاسم علي بن أحمد الجَرْجَرَائي (ت 436هـ/1045م).
حصيلة كارثية
وقد دفعت الحصيلةُ السيئة لتدبير المستنصر وأمه للحكم مؤرخا حصيفا عاش قريبا من ذلك العصر مثل ابن القلانسي إلى أن يرسم صورة بالغة القتامة للعهد المستنصري؛ فنجده يقول في ‘تاريخ دمشق‘: "وفي أيامه ثارت الفتن.. وغَلَت الأسعار وقَلّتْ الأقوات، واضطربت الأحوال واختلت الأعمال، وحُصِر في قصره وطُمع في خلعه لضعف أمره، ولم يزل الأمر على هذه الحال إلى أن استدعَى أمير الجيوش بدر الجَمَالي (ت 487هـ/1096م) من عكا إلى مصر سنة 465 (هجرية/1073م)، فاستولى على الوزارة والتدبير بمصر".
لقد كان عهد حكم ابنها المستنصر -الذي تواصل ستة عقود معظمها تحت نفوذ أمه- مثالا في اعتلال الدولة واختلال نظامها، ويكفي ما عانته مصر في زمنه من "الشدة المستنصرية" (457-464هـ/1066-1073م) التي كانت السبب البعيد في تدهور الدولة جراء ضعف مكانة "الخلفاء" الفاطميين، وما تبع ذلك من استفتاح لحقبة حكم "الوزراء الأقوياء" بتولية بدر الجَمَالي، وهي الحقبة التي تواصلت حتى نهاية الدولة الفاطمية على أيدي الزنكيين بواسطة أعوانهم الأيوبيين سنة 567هـ/1174م.
وإذا كان الأيوبيون قد أنهوا حكم الفاطميين؛ فإنهم ورثوا كثيرا من تقاليدهم في الحكم كان منها -على ما يبدو- ظاهرة نفوذ النساء في السلطنة ومشاركتهن في الحكم، وإن كان ذلك إنما حصل في أواخر دولتهم وتحديدا في إحدى بقايا ممالكهم في الشام.
فهذا الإمام الذهبي يحدثنا -في ’تاريخ الإسلام’- عن الصاحبة ضيفة خاتون (ت 640هـ/1242م) مبينا المكانة العالية التي تتبوّؤها داخل الأسرة الأيوبية الحاكمة، باعتبارها ابنةً للسلطان العادل أبي بكر (ت 615هـ/1218م)، وزوجةً للظاهر غازي (ت 613هـ/1216م) ملك حلب، ووالدةً لابنه وخليفته العزيز محمد (ت 631هـ/1234م)، وجدةً لابنه الناصر صلاح الدين الثاني (ت 659هـ/1261م) ملك دمشق!!
ويصفها الذهبي بأنها "كانت ملكة جليلة عاقلة"، ويقول إنها لما "مات ولدها العزيز تصرفت تصرف السلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض بعدل وشفقة وبذل وصدقة وعقل وحذلقة (= التصرف بحذاقة)"، فقد "أزالت المظالم والمكوس (= الضرائب)..، وكانت تؤثر الفقراء والعلماء، وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة، وما قصدها أحد إلا رجع بخير مَحْبُورا (= مسروا)، ولما توفيت غُلِّقتْ أبوابُ حلب ثلاثة أيام"!!
كما نجد قبل التاريخ أعلاه في الشام السيدة صفوة الملك زمرد خاتون بنت الأمير جاولي (توفيت 557هـ/1162م) وأم شمس الملوك (ت 557هـ/1162م) الذي بالغ "في الظلم والمصادرة..، فعاقب الناس بفنون قبيحة اخترعها"، ثم هدد بتسليم دمشق إلى الإفرنج "فظهر أمره للناس فأشفقوا من الهلاك خاصتهم وعامتهم، وأنهوا الأمر إلى زمرد.. فحملها دينها وعقلها على النظر بما يحسم الداء فلم تجد بدا من هلاكه، وأُشير عليها بذلك لما آيسوا من خيره، فسُرّ الأمراء والخاصة بمصرعه، وكثر الدعاء لها" بسبب قتلها لولدها الذي أهلك الحرث والنسل.
ويضيف الذهبي -في ’التاريخ’- أنها بعد هذه الواقعة عظم شأنها "وخضعت لها النفوس، ثم رتبت أخاه محمود بن بوري (ت 533هـ/1139م) في السلطنة، وكانت تدبّر ملكه إلى أن تزوج بها قسيم الدولة" عماد الدين زنكي (ت 541هـ/1146م) مؤسس الدولة الزنكية ووالد نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م).
المصدر: الجزيرة