في إحدى الندوات الحوارية التي شاركت فيها، في معرض للكتاب، وأمام جمهور لا بأس به، سألني أحد الحاضرين: هل يستطيع الكاتب أن يعرف إن كان عمله سينجح أم لا؟
كان سؤالا صعبا، لأننا بالفعل لا نستطيع أن نتكهن بنجاح الكتابة من عدمه، أسوة بأشياء كثيرة في الحياة، نفعلها ولا نعرف نتائجها، فأنت حين تلد أبناء لا تعرف ماذا سيحدث لهم، على الرغم من أمنياتك الدائمة، أن يسلكوا طرقا سهلة، ويعيشوا في سعادة. كذلك حين تدرس أي علم من العلوم، لا تعرف إن كنت ستعثر على وظيفة جيدة، أم تظل عاطلا بلا عمل. أنا لديّ تجربة كبيرة في الكتابة منذ الشعر العامي في بداية مراهقتي، إلى الرواية والسيرة، وكتبت أعمالا زخرفتها جيدا، وأعطيتها وقتا وجهدا، وكنت أتوقع أن تنجح بضراوة وسط القراء، والنقاد أو الاثنين معا، لكن لم يتحقق شيء من ذلك، لقد تمت قراءتها، وتم تناولها في المحيط العادي للتناول، لكن ليس أكثر من ذلك، وعندي روايتان بالتحديد، فيهما تاريخ وجغرافيا، وأساطير وشعر، وكل شيء، أسمع من يتحدث عنهما أحيانا، لكن بأصوات خافتة، بينما لديّ أعمال أخرى، كتبتها في فترة وجيزة، وبتلوين أقل، وحشد أقل للغة ونجحت كثيرا، ولدرجة أنني أغتاظ من محاولات تجري دائما لحصري في تلك الأعمال الجماهيرية، وتقليص التجربة فيها. أيضا ثمة شيء آخر، وهو الاستخدام الروتيني لأدوات الكتابة، الذي ينتج أعمالا مختلفة في الناحية الإبداعية، والناحية التسويقية، أنت ككاتب تدربت كثيرا على الكتابة، لا بد صار لك أسلوب معروف، تكتب به كل الأعمال، ويختلف الأمر فقط في الفكرة والتناول، وإن كان العمل الذي تكتبه تاريخيا أم معاصرا؟
ما الذي يجعل إذن عملا ينجح وآخر لا ينجح؟
لا أعرف، لا أحد يعرف حقيقة، إنها حظوظ موزعة في فضاء القراءة، وكل كتاب يخوض فيها بحظه، لكن الكاتب مثل الأب، يحزن كثيرا لفشل الأبناء، ويفرح لنجاحهم وليس لديه أي حيلة.
بالنسبة لآراء القراء في مواقع القراءة التي باتت الآن مطروقة كثيرا، سواء بالقراء الباحثين عن كتاب متفق عليه، أو حتى مختلف في شأنه، أو الكتاب الوسواسيين الذين يبحثون عن حظ كتبهم فيها، ستجد دائما آراء متباينة، آراء بعضها محترم وناتج عن قراءة محترمة وجيدة وغير متحيزة لأي شيء، وآراء أخرى لا علاقة لها بالقراءة والكتابة، إنها مجرد آراء فقط، تحت أسماء فيها الحقيقي، وفيها غير الحقيقي، كذلك في كثير من الأحيان يراسلك من يقولون إنهم قراء لإبداء الرأي السلبي مباشرة في عملك، ولك وحدك، في ما سميته: ملاحقة القارئ للكاتب، وطبعا هذا سلوك غير حميد، وغالبا مثل هؤلاء لم يقرأوا حرفا ولا يقرأون أصلا، وفقط يبحثون عن طريقة تمنحهم اهتماما ما.
حين تزور معارض الكتب، سواء للمشاركة في ندوة، أو للتسوق مثل أي قارئ عادي، ستعثر على آلاف الناس، يملأون الأماكن كلها في مساحة المعرض، بعضهم يستخدم عينيه في تصفح الأغلفة، وبعضهم، يقلبها بين يديه، ويسأل عن السعر، وفي النهاية حين تحصي مشتريات المعرض، ستجد أن أغلب من دخل وخرج وتصفح، لم يكن يبحث عن كتاب ما، إنهم سياح عاديون، يمارسون رياضة المشي والتلفت في مكان لا بأس به، وغاص بالناس من مختلف الفئات. وحتى لا أكون ظالما، توجد معارض في بلدان معينة، غاصة بالشراء، الناس فيها يشترون دون تصفح كثير للكتب، وفيهم كثيرون يسألون عن كتاب معينين، يشترون أعمالهم بمجرد أن يعثروا عليها، وطبعا الكثافة الزائفة هذه في معارض الكتب، تمنح آمالا لكنها من أدوات عدم نجاح الكتابة.
تحدثت أيضا عن الكتاب الذي في قبضة شخص ما، في أحد المعارض، إنها عادة موجودة، وستظل موجودة ما دام الكاتب أو المبدع عموما، هو من يضطر أن يروج بنفسه لكتابه، ويشارك الانفعالات التي يرسلها له الآخرون على صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى لو كانت انفعالات زائفة، أي يلتقط أحدهم صورة مع كتاب في معرض ما، يعيد الكتاب إلى رفه، ويرسل الصورة للمؤلف الذي يحتفي بها كثيرا، ويشاركها بضراوة مع أصدقائه، إنها خطة أيضا من خطط غير القراء لإفشال عمل ما، في جعله ناجحا نظريا، بينما هو غير ذلك، والكتاب الناجح فعلا، لا يعود إلى رفه أبدا بعد أن يلتقطه أحد ما.
بالنسبة للترجمة إلى لغات أخرى، التي يعتبرها بعض الكتاب، بداية لمستقبل مشرق لكتبهم، وانطلاقة ستخلدهم، وفعلا سيؤرخ لهم في الأمم، هي أيضا تسوق إحباطات كثيرة، وفشلا آخر قد يحدث لكثير من الكتب التي ربما تكون ناجحة عربيا.
وقد أشرت كثيرا إلى أن الترجمة لعشرين لغة حتى، لا تجعل الكاتب عالميا، وإنما تطرح اسمه في أسواق العالم، وغالبا سيتم تداول الاسم بحذر، العالمية هنا تأتي في معنويات الكاتب الذي سيردد دائما حين يرى كتابه بالفرنسية أو الألمانية أنه كاتب عالمي. على أن هناك كتب تنجح بالفعل حين تترجم إلى لغات أخرى، وتحصل على جوائز هناك، وهذا أيضا يحدث بلا معيار علمي يمكن القياس عليه. وكان بعض الكتاب يعتقدون أن كتابة المحظورات في الدين والجنس والسياسة، ترسلهم إلى الترجمة، وإلى القارئ الغربي الذي سيمجدهم، لكن هذه أيضا خطة متوهمة، قد لا تجدي نفعا. نريد بالفعل أن نكتب بصدق، وأن يقرأنا الناس بصدق، ونتمنى نجاح كتبنا دائما، حتى لو لم تظهر في قائمة من قوائم الجوائز، وهذه من معايير نجاح الكتاب عند بعض القراء.