لا أعرف من أين يبدأ المرء حديثه عن رحلة إسبانيا خلال الأسبوع الماضي لمدن مدريد وطليطلة وبرشلونة، التي كان هدفها تقديم أربع محاضرات بمناسبة صدور الطبعتين الإسبانيتين من رواية «زمن الخيول البيضاء» ورواية «براري الحُمّى». كان الأمر قد تمّ ترتيبه منذ أكثر من شهرين، لذا كان مسار الرحلة واضحاً، لكن كل شيء تغير في ما بعد، بوصولنا، ليس وحدنا في العالم العربي وحسب، بل في الكرة الأرضية كلها، إلى صباح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولعل أكثر ما يدعو للتفاؤل هو هذا العمل الفلسطيني العربي الإسباني الدؤوب لكي يصل صوت فلسطين إلى كل الناس، ويتجلى ذلك في العمل بين صفوف الكتاب والفنانين والصحافيين، وفي الجامعات، والذي لولاه لما كانت هذه الجولة وما تخلّلها.
أول التغييرات التي حدثت أن برنامج المقابلات الصحافية المقرّر قد اتّسع، بحيث بدا مفاجئاً حقاً، وغير واقعيّ بسبب ازدحامه، وبات الأدب جزءاً يسيراً منه، باستثناء حوارات قليلة كَرّست له: سبع مقابلات في يوم واحد، خلال سبع ساعات، واحدة كل ساعة منذ التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساء، تليها المحاضرة الأولى عن الرّوايتين في البيت العربي بمدريد.
لم يسبق لي أن مررت بتجربة كهذه، بخاصة أن المقابلات محجوزة لصحف اليمين واليسار الرئيسية، ولم يكن لدي مانع، لكن ما كان يقلقني كيف يمكن المواصلة، ثم الذهاب إلى المحاضرة بعد كل هذا الإرهاق الذهني والجسدي للتحدث عن فلسطين ما قبل النكبة في الرواية الأولى، والإقامة في الحُمّى في الرواية الثانية.
بالنسبة إليّ، كنت دائماً أُفضِّل الحوار مع طرف مخالف أكثر من طرف موالف، فأسئلة المخالف تجعلك تمتحن مناطق في عقلك لم تكن قد امتحنتْها من قبل أسئلةٌ موالِفة، رغم أن كثيراً من هذه الأسئلة المخالفة لا ينتمي في كثير من الأحيان لعالم الحوار حقاً، بل إن بعضها ينتمي لعالم المُهاجمة لا غيره، ولكن ما اكتشفته في هذه الزيارة خلال 14 حواراً في أربعة أيام لا غير، أن كثيراً من أسئلة اليسار لم تزل نُسخاً مطابقة، حتى بعدد أحرفها، عن أسئلة اليمين، ولأن غزة وفلسطين تُشغل العالم كما لم تُشغله هذه الأيام قضية أخرى، فإن معظم الأسئلة كانت تبحث عن إجابات لها في هذا الحيّز الضيق الدّامي في زمن البثّ المباشر لعمليات القتل التي تمارسها القوات الصهيونية دون رادع من أحد.
السؤال الذي يتكرر وسمعناه كثيراً منذ السابع من أكتوبر في كل مقابلة تقريباً هو: هل تدين حماس؟
وكأن هذا السؤال بات جزءاً أساسيّاً من أيّ حوار يُجرى مع أي فلسطيني أو عربي أو أي مناصر لفلسطين في هذا العالم؛ كأنه الاختبار الذي لا بدّ منه لإثبات حسن النوايا تجاه قتلة لا يردعهم أي قانون، أو أي قيم، أو مبادئ أرضية أو سماوية، لا لشيء إلا ليصدق محاورك أنه يجري مقابلة مع إنسان لا مع كائن متوحش، الذي هو أنت!
كان لا بدّ من أن يُعلق المرء على هذا السؤال: لقد سمعت هذا السؤال يوجّه إلى مئات الشخصيات في وسائل الإعلام المتعددة، ولكن بعد أن قتلتْ «إسرائيل» 15 ألف إنسان، معظمهم من النساء والأطفال، واختطفت سبعة آلاف إنسان في الضفة، وقتلت أكثر من 200 فيها، لا أحد يسأل أبداً: هل تدين إسرائيل؟ بل إن بعض الصحافيين كانوا يسألون: هل تعترف بحق إسرائيل في الوجود؟ ويكون عليك أن تجيب: وما الذي يهمّ هذا الكيان أن يتم الاعتراف به من قِبل من قتلهم؟ الشهداء لا يعترفون بقاتلهم بل يُدينونهم، لماذا هذا الإصرار على أن يعترف القتيل بحق قاتله في الحياة؟ رغم أن قاتله مصرٌّ على إنكار أنه لم يقتله، (المستشفى المعمداني مثال مرعب على ذلك).
أحد الصحافيين كان أشبه ما يكون بنائب للناطق الرّسمي باسم الجيش الصهيوني حقاً، (ونحن نتحدث هنا عن أمر يدور في إسبانيا، حيث مناصرة الشعب الفلسطيني تجلت رسمياً وشعبيّاً)، فهو لم يكن يكتفي بأي إجابة عن أسئلته هذه، بل يوجه السؤال بعد السؤال بعد السؤال ليظفر بإجابة للسؤال الأول، وكأن المقابلة تتم في غرفة تحقيق. كان يريد إجابات محددة تماماً، فهو قادم لانتزاع اعترافات.
كنت ألاحظ حجم التوتر، بل الغضب الذي بات واضحاً في عينيّ الصديق العزيز الذي يترجم اللقاء إلى الإسبانية، أمام سيل الأسئلة التي لا تُحتمل، لكنه بدأ يهدأ تدريجياً وهو يسمع الإجابة المُوبّخة: يفهم المرء كيف يمكن لكثير من السياسيين الأوروبيين أن يكونوا جاهلين بجوهر فلسطين وقضيتها، وإن لم يكونوا جاهلين بها فهو مدرك كم هم تابعون للسياسة الأمريكية، وملتزمون بالأفق الذي تحدده تصريحات الناطق باسم البيت الأبيض، أو رئيسه، أو وزير دفاعه، أو وزير خارجيته الذي لا يشبه شيئاً مثلما يشبه لوح جليد غير مكترث بالدم الذي رشقته به آلاف الضحايا. يمكن للمرء أن يفهم ذلك حين تكون قارّة مثل أوروبا تتصرّف كذيل للأسف، مع بعض الاستثناءات التي بدت واضحة وشجاعة ممثلة في الموقف الإسباني والبلجيكي والإيرلندي، فالأمر واضح: أوروبا تتبع أمريكا، وأمريكا تتبع إسرائيل، كما تتبع معظم الأنظمة العربية أمريكا. لكن الأمر المؤسف في هذا أن الذين يعرفون، أو من السهل عليهم أن يعرفوا جذور الحكاية الفلسطينية، قد اتخذوا قراراً بأن يبدأ عمر القضية الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر، إذ يغمضون أعينهم، ثم آذانهم، ثم ضمائرهم، وهؤلاء فئات واسعة من الصحافيين وغيرهم من الفئات القادرة على أن تتكلم. قد يبرر المرء بصعوبة لسياسي تلعثمه وعماه بسبب ذيليته لنظام تابع، لكنه لا يستطيع أن يبرر هذا لصحافي مثلاً. يبيع السياسي ضميره مرّة، أما الصحافي فيبيعه مرتين على الأقل، مع أن الحقيقة تقول: الذي يبيع ضميره مرّة يكون قد باعه إلى الأبد.
بالطبع، هذا واحدٌ من النماذج، لكن الأسئلة المُعلّبة الجاهزة دائماً موجودة، ودائماً عليك أن تجيب عليها بالتفصيل دون أن تمنح الصحافي ما يريد، بل لتأخذ ما تريد. لكنني لا أستطيع إلّا أن أقدِّر كثيراً حجم الاهتمام الذي أبدته الصحف الكبرى جميعها، والحوارات الطويلة المعمّقة التي أفردتْ لها صفحات كاملة، وذلك التفهم الكبير الذي أبداه كثير من الصحافيين، حتى وهم يعتذرون عن بعض الأسئلة قبل طرحها، حين يقولون: نحن نعرف الإجابة، ولكننا نريد أن يقرأها الناس ليعرفوا الحقيقة، لا من سياسيين هذه المرة، بل من كتّاب!