ربما الأوفى أن أخص بالصفحات القادمة جيلاً سيأتي؛ يعقب جيلي، لنؤكد لهم وهم بين أنقاض عالمنا، أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم.
فمصلحتهم لا غنى عنها في هذا القسم الثاني من الدراسة إذا ما وجد رجال الغد في ركام عالمنا بعض المعطيات الأساسية لبناء جديد.
فالمعطى الأساس الذي سوف تبنى عليه هذه الدراسة، سوف يرشد الجيل الذي يأتي بعدنا بشكل أفضل، حين يعرف أنه ليس عليه أن يغرق في أوحال أيٍّ من خصائص عصرنا الأكثر بروزاً وظهوراً والأكثر جدلاً، بل على العكس من ذلك عليه أن يبني عالمه الروحي الذي يرتكز عليه مجرى عمقه الخفي.
هذا الاهتمام هو الذي أتطلع إليه هنا من أجل أن يعلم الجيل الجديد مسبقاً أن عليه أن يحرر مستقبله من هذه التركة.
كلمة الناشر «ربما الأوفى أن أخص بالصفحات القادمة جيلاً سيأتي؛ يعقب جيلي، لنؤكد لهم- وهم بين أنقاض عالمنا- أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم» [المقدمة ص30] . ربما كانت الحرقة البادية في كلمات مالك بن نبي هذه، وراء قراره الذي اتخذه يوم 22-1-1952 بحجب كتابه هذا عن النشر، عند فراغه من كتابة السطر الأخير منه. وإذ يتولى الأستاذ عمر مسقاوي، الوصي على فكر مالك الآن؛ الإفراج عن هذا الكتاب الوثيقة؛ ليصدر في 22-1-2012، بعد ستين عاماً من حجبه، فإن ذلك يثير التساؤل أكان قد آنس في الجيل الجديد رشداً؛ يؤهله لوعي الرسالة التي يحملها؟! وهذا التساؤل يثير بدوره سؤالاً آخر: أكانت أعمال مالك بن نبي الأخرى؛ المنشورة على مدى ستين عاماً، قد استقرت في وعي الأجيال التي تعاقبت خلالها، فتلمست عبرها طريق النهوض؟! لقد أفنى مالك بن نبي عمره في استنهاض الإنسان المسلم، وتأهيله لاستلام راية الحضارة الإنسانية، التي أخذت تترنح في أيدي الغرب، لكن حجم الرواسب التي حملها المسلم معه إبان نكوصه الحضاري، كانت أكبر من طاقة مالك على تصحيح المسار؛ فعاش عمره غريباً يغرد خارج السرب، شأن كل الأنبياء والمصلحين. وقد استحكمت غربة مالك بن نبي على الساحة الفكرية؛ نتيجة منهجيته الصارمة التي رتب أفكاره عليها؛ ورؤيته البعيدة التي تضع مشروعه النهضوي في إطاره الإنساني الشامل، وفي موقعه على مسار الدورات الحضارية، متميزاً بذلك عن مفكري حركة النهضة؛ بشقيها: السلفي العاكف على تراثه يحاول تكييفه مع حاجات العصر، والحداثي الذي يروم قطع صلاته بالتراث؛ ميمماً شطر تجارب ليس لها في أرضه جذور، فلم يفهمه أي من التيارين، ولم يمكن تصنيفه ضمن واحد منهما، فكان مرفوضاً منهما كليهما.. لكن غربة مالك بن نبي قد آذنت بالأفول على ما يبدو، فأفكاره التي استعصت على الفهم لدى أجيال النكبة والانتكاس الحضاري، قد أخذت طريقها الآن إلى جيل الشباب الذي استهدفه مالك، وخصه بهذا الكتاب، فأصبحنا نرى كتبه في أيديهم ينهلون منها نظرياً، ونرى أفكاره تتحقق نبوءاتها على أيديهم عملياً، بداية لعصر جديد أمسكوا فيه بزمام المبادرة، وأطلقوا عليه اسم (الربيع العربي). مقدمة الترجمة العربية عمر مسقاوي في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي سمَّاه ( Vocation de l’Islam ) الجزء الأول والثاني. نظر مالك بن نبي إلى المشكلة من مكوناتها التاريخيَّة، وكان هذا التقرير يلخص عمق التحدي الذي يواجه العالم الإسلامي، الذي انطلق من المشكلة نفسها؛ القضيَّة الفلسطينيَّة. هذه الصفحات هي المدى الذي انطلق منه مشروع بن نبي في معالجة القضيَّة اليهوديَّة وهو يتأمل مصير العالم الإسلامي والعربي واتجاهاته انطلاقاً من بداية القرن العشرين. فكتاب (وجهة العالم الإسلامي) في جزئه الأول ثمَّ في جزئه الثاني؛ حاول الجواب عن سؤال الهيمنة اليهوديَّة بصورة مختلفة عما تناولها مختلف الباحثين. لقد تحدَّث مالك بن نبي من شرفة قضية فلسطين منذ نكبة عام 1948م، فبسط رؤيته في صورة وصفيَّة رؤيويَّة لمساحة السنين القادمة من القرن العشرين. ولقد تناولها بن نبي من زاوية «القابليَّة للاستعمار» في تحليله الذي جاء من منابع أخرى، لم تقف عليها من قبل دراسات حول القضية كنتيجة تاريخية لا يملك العالم العربي حلاً راهناً لها في العمق، ما دام الموقف التاريخي من بروز فكرة الاستعمار لم يأخذ سبيله إلى وضع تلك المشكلة في مدار الحل التاريخي. وهذا ما يبدو من المقدِّمة التي افتتح بها مالك بن نبي دراسته في الجزء الثاني من كتابه (وجهة العالم الإسلامي). يقول بن نبي: « إنَّ قدراً تميَّز بطابعه الغريب أحاط بالكاتب؛ يدعونا إلى أن نتمهل قبل أن نكتب مقدِّمة خاصَّة لهذه الدراسة التي استرسلنا فيها بعيداً عن حدودها، لنرى أولاً إذا كان ما نكتبه يمكن نشره؛ فالقسم الأول من هذه الدراسة (وجهة العالم الإسلامي) الذي نشر في كانون الثاني/ يناير 1951، والقسم الثاني الذي نحن بصدده الآن مختلفان من حيث طبيعتهما . فالقسم الأول يمكن أن يعتبر في العمق اختصاراً لدراسة داخليَّة للعالم الإسلامي، وبالخصوص (القابليَّة للاستعمار)، وهذا قد اقتضى العودة إلى استعراضنا خط تطور العالم الإسلامي من قيام حالة القابليَّة للاستعمار (عصر ما بعد الموحدين) إلى قيام حالة الاستعمار حينما استعمرت أوروبا المسيحيَّة البلاد الإسلاميَّة. وبالمقابل فهذه الدراسة في القسم الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) هي دراسة خارجيَّة مستقبليَّة تركز على القضيَّة الإسلامية في إطار القضيَّة العامَّة التي سوف تأتي ». فدراسة الجزء الأول من (وجهة العالم الإسلامي) تناولت شؤوناً داخليَّة انتهت إلى الطرق الجديدة في التجدُّد النفسي والروحي، وهنا تلاقت دراسة الجزء الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) مع الجزء الأول في قسمه الخاص بالتخطيط للدعوة الإسلاميَّة، لكنَّ القسم الأول من كلٍّ منهما بدا منفصلاً عن موضوع «وجهة العالم الإسلامي» في جزأيه؛ لأنه انصرف إلى عميق رؤيته في مكوِّنات العصر الحديث، وسره الخفي في لغز تأثير الفكر اليهودي في بناء العالم الأوروبي وظاهرة الاستعمار، ولأنَّ هذا العالم الغربي الأوروبي سيظل في مسيرة النصف الثاني من القرن العشرين مهيمناً على أي نهضة أو تحرك في العالم الإسلامي والعربي مادام طريقه لم يستقم في الخروج من مرض القابليَّة للاستعمار، فقد تبيَّن له أن من تمام دراسته في الجزء الأول التي أفاض فيها نقداً لليقظة الإسلاميَّة على سرير القابليَّة للاستعمار؛ أن يبسط في الجزء الثاني للجيل القادم معالم الطريق في عالم ما بعد الحرب العالميَّة الثانية؛ هذا العالم الذي سوف يفرز مساراً جديداً للاستعمار إذا لم يحُلَّ العالم الإسلامي والعربي مشكلته الأساسيَّة، لأن الخروج من الاستعمار المباشر نحو الاستقلال السياسي؛ لا يكفي إذا لم يكن نتيجة الخروج من مرض القابليَّة للاستعمار في الجانب التربوي والثقافي ليرفع من كفاءته في مواجهة مستقبله.
في كتاب جديد ينشر للمرة الأولى يتوجه مالك بن نبي إلى جيل جديد يعقب حيله، ليؤكد لهم، وهم بين أنقاض عالمه، أنه عليهم واجب بناء عالم خاص بهم. لقد وضع المفكر مالك بن نبي الخطط التي يراها مجدية للنهوض بالعالم الإسلامي وحدد له وجهته نحو المعاصرة والحداثة. لقد درس مالك بن نبي كيف أثر الفكر اليهودي في بناء أوربا، وكيف تشكلت الظاهرة الاستعمارية؛ وكيف استطاع اليهود لم شملهم وتشكيل قوى سياسية وثقافية واقتصادية فاعلة على الصعيد الأوربي والعالم. لماذا يحاول العالم الغربي إجهاض أي نهضة وتحرك إيجابي في العالم الإسلامي والعربي؟! هل يمكن أن يحقق العالم العربي الإسلامي أي نهوض دون التخلص من مرض القابلية للاستعمار؟! عندما تتحقق النهضة، يستطيع العالم العربي أن يعرف أكثر وجوه النقص في الحضارة الغربية، كما سيتعرف على مصادر عظمتها.. وعندها ستكون العلاقات والصلات بين الغرب والعالم الإسلامي أكثر خصباً.