تخطي إلى المحتوى
المثقف المدني… الغياب وفوبيا المدينة المثقف المدني… الغياب وفوبيا المدينة > المثقف المدني… الغياب وفوبيا المدينة

المثقف المدني… الغياب وفوبيا المدينة

قد يبدو الحديث عن المثقف المدني صعبا في ظل غياب ثقافي لمفهوم المدينة، وللوقائع التي تصنع وجودها السياسي، وفي سياق تمثيلها للنظام الاجتماعي والاقتصادي، وحتى الأنثربولوجي، لكن الحديث يبدو أكثر صعوبة في توصيف وظيفة المثقف، في ظل الانقسام الاجتماعي المعقد، وفي ظل وجود تشكلات اجتماعية وسياسية غير مستقرة، ما يجعل العلاقة بين المثقف والمدينة غائمة، ومن هوية المثقف شائهة، وغير واضحة الملامح، وربما فاقدة لشروطها الوجودية والطليعية، وحتى التنويرية والنقدية والعضوية..
ينتمي أنموذج المثقف المدني بتوصيفه الإجرائي إلى مشروع المدينة، وحتى إلى مشروع الدولة بوصفها مؤسسة تمثيلية لانتظام الفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبغياب ذلك فإن هذا المثقف لا يعدو أن يكون إلّا جزءا من الظل الاجتماعي، ومن الهامش الوظيفي أو الحرفي، أو جزءا تابعا للمركزية الأيديولوجية الحاكمة – حزبية، دينية، طائفية، مهنية- أو أن يكون منخرطا في تداولية الثقافات المحلية..
خطورة الحديث عن هذا المثقف المدني وضرورته برزت بعد 2003 إذ ارتبطت هويته الغائبة، بالحاجة إلى الحديث عن تمثيل مفهوم «الدولة الجديدة»، وعن إعادة النظر بمفاهيم مجاورة، لكن مُعطّلة، مثل الحرية والمجتمع المدني والديمقراطية والنقابية والالتزام وغيرها، فهذا المثقف لا تاريخ له سوى التخفي والتقنع بالأدبيات الثقافية، لأن تاريخ السلطة المركزي والطارد، لا يثق بوجود المثقف الخارج عن نسقه، فضلا عن أن شخصية المثقف تعاني من رهاب قارٍ في المركزيات القامعة للحزب والفقه والجماعة، وأن تمثيله المدني يعني الانخراط في فعاليات نقدية، خارج هذه المركزيات، وفي ممارسات تتجاوز ما هو مرذول في السياسة وفي النقابية، وباتجاه يجعل وجوده الثقافي رهينا بالتعبير عن أفكار التقدم والتغيير والتحرر، وتبني برامج الإصلاح الفكري، فبقدر ما تبدو صورة هذا المثقف نظيرة لصور المثقف النقدي، والمثقف العضوي، فإنه سيبدو اكثر حيوية من خلال تمثيله لفكرة المدينة كمشروع تأسيسي، ولما يجري فيها من فاعليات تخص التحول الاجتماعي والديمقراطي، مثلما تخص ربط هذا المشروع بمؤسسات وقوانين وسياقات تكفل عمل السلطات، ومنها سلطة الثقافة، وتحمي الحريات العامة، بما فيها حرية الرأي والتعبير والنقد، وحريات الصحافة وتأسيس الصحف والمنصات الإعلامية وغيرها..

المثقف والقبيلة والدولة

تكشف إشكالية توصيف هذا الثلاثي عن صعوبة تحديد السمات للوظائف الثقافية التي يمكن أن تؤديها الأنتلجنسيا، فغياب المؤسسات الثقافية أو تعطلها يعني قصورا في النظام التمثيلي للدولة، كما أن غياب المشروع الثقافي يعكس الخلل البنيوي الذي ستواجه تحدياته تلك الأنتلجنسيا، وبالتالي تعطيل دورها النقدي، لأن عطالة الوظيفة النقدية يكشف عن الفشل العمومي للجهات المؤسسة للدولة، بدءا من السلطات الحاكمة، وانتهاء بالعناصر الساندة، مثل الأحزاب والجماعات والقوى اللادولتية، إذ سيتحول الخطاب النقدي إلى خطاب إكراهي، وإلى أداة للعنف والتشوه والكراهية والتكفير، وبالتالي فإن مفهوم الخطاب المدني ومضمونه سيفقد تداوله وشرطه الموضوعي، مثلما سيفقد سياقه التاريخي الذي يتحرك به، لتبرز قوى ناتئة وهجينة، أكثر مركزية في عصابها، وأكثر غلوا في فرض مركزياتها على توصيف مفاهيم الدولة والعمران والاجتماع، حيث ستصعد معها أشكال تعبيرية تتجوهر حول عصابية الخطاب، وعند نظامه السايكوباثي، الذي يتحول إلى قوة عنفية مانعة للتغيير، ورافضة لفاعليات وظائف المثقف النقدي، إذ ستكون القبيلة والعشيرة والجماعة الطائفية هي المحور العصابي والصياني الباعث على تشكيل ثقافي ضيق، وعلى ممارسات ثقافية تنحصر في التعبير عن وجودها من خلال ما تستدعيه إشباعات المضمر في النسق الطائفي أو القومي..
ظل تاريخ العراق السياسي والأيديولوجي منذ عام 1963 محكوما بنوع من أدلجة العنف، تعثرت فيها سيرة المثقف، والمؤسسة الثقافية المدنية، فلا السلطة العسكرية، ولا نمطها الأيديولوجي القومي كانا يتقبلان وجود هذا المثقف بوعيه النقدي، وبرؤيته المتعالية للحرية، وللعلاقة المفتوحة مع الآخر، وحتى نشوء تشكلات مدنية – نقابات، اتحادات، منظمات مجتمع مدني – لم تكن بعيدة عن الرقابة والسيطرة، وهو ما دفع إلى بروز ما يمكن تسميته بالمثقف الاحتجاجي، الذي فرض انوجاده النقدي من خلال ممارسات تجريبية، تبدت من مظاهر ثقافية وأطروحات مثيرة للجدل أسئلته حول قيم الحداثة والتجديد والمغامرة والتجاوز والثورة، ولعل ظاهرة البيانات الثقافية، الشعرية والفنية والقصصية، كانت من أبرز تلك الممارسات الاحتجاجية حضورا، إذ استبطنت كثيرا من ذلك الوعي الغاضب والرافض والباحث عن خيارات تحمل معها شيفرات التطهير والحلم، وأقنعة الأفكار المتعالية بهواجسها النقدية.

المثقف وفوبيا المركزيات

تحول التشظي في هوية المثقف العراقي إلى فوبيا توصيفية، فالتوزع بين المثقف الديني والمثقف اليساري والمثقف القومي والمثقف الانتهازي، كشف عن رهاب ذلك التشظي، وعن انقسامات عميقة في المجتمع، مثلما كشف عن فشل الأحزاب الجديدة، بما فيها أحزاب ذات طابع مدني من أن تجاهر بوجود هوية واضحة ومستقلة لمثقفها المدني، القادر على ممارسة وعيه النقدي بشجاعة، إذ كشف هذا الفشل عن رثاثة أيديولوجية، وعن مظاهر هشة وانتهازية لكثير من فاعليات التمثيل الفكري والسياسي، وحتى النقابي، فضلا عما تعرضت له من اختراق وجودي، من خلال تورط نخبها الثقافية والسياسية في المحاصصة، والمصالح والأدوار المتعسفة، وبالتالي أضحت جزءا خاضعا إلى مركزية النظام السياسي المترهل..
ضآلة الوعي النقدي، ليست بعيدة عن إشكالية العنف الاجتماعي، ولا عن مركزية النظام السياسي، وعما تتعرض له الحريات والحقوق من تهديدات، تربط وجودها بالطابع الأيديولوجي للسلطة، فمظاهر الضآلة تبدت من خلال عزلة كثيرٍ من الطيف الثقافي، وخوفهم من العنف الأصولي، مقابل بروز مظاهر ساذجة وغريبة لتسويق أنموذج «المثقف السياسي»، أو «المثقف الفضائي» الذي باتت توظفه القنوات الفضائية لصالح مركزياتها السياسية والأيديولوجية وحتى الطائفية، فباتت صورة هذا المثقف جزءا من الرثاثة العامة، وربما أنموذجا لمثقف الفرجة، وحتى المثقف التظاهري فقد كثيرا من أهليته ومن خطابه الثوري والاحتجاجي جرّاء ترهل الشعارات، وضعف إدارة الفاعليات التظاهرية، ووقوعه في فوبيا المركزيات الخارقة..

المثقف الإبداعي وأسئلة النقد

بقدر ما تبدو صورة المثقف ملتبسة وغامضة، فإن حضور الأنموذج الابداعي قد يحمل معه نوعا من التظهير الثقافي، لاسيما في التعبير عن هواجس القلق والمراجعة، وبالاتجاه الذي يجعل من السرديات الثقافية أكثر تمثيلا لصورة تقترب من «المثقف المدني» بوصفه مؤلفا وصانعا للأفكار، فعبر قيامه بالحفر في التاريخ، وفي الوثائق، وفي اصطناع مستويات نقدية للفكر تتبدى فاعليته، وكأنه أنموذج للفاعل الثقافي، وفي ممارسته النقدية، وفي تدوينه لنصوص السيرة والأرخنة، لاسيما من خلال مراجعته لكثير من اللحظات المفصلية في تاريخ الدولة، وفي تحولات ما حدث في الاجتماع السياسي العراقي، وفي إضاءة سيرة «المقموع والمسكوت عنه» في تاريخنا المعاصر، فكثيرا من الروايات تحولت إلى شواهد لهذه المراجعة، مثلما كشفت لنا عن محنة تغييب الوثيقة والسيرة، فكانت روايات لطفية الدليمي وأحمد خلف وعلي بدر وخضير فليح الزيدي وإنعام كجه جي وسنان أنطون ومحسن الرملي وسلام إبراهيم وعلي لفتة سعيد ووارد بدر السالم وشاكر نوري وأمجد توفيق وغيرهم، كانت أكثر مكرا ومناورة في التخيل التاريخي، وفي جعل الهوية السردية أكثر إثارة في الكشف عن المخفي، وعن سيرة المأزوم في حياتنا العراقية عبر الحفر في ذاكرة الحرب والاستبداد والإرهاب الاجتماعي والطائفي والصراع الأهلي..
استغرقت الرواية العراقية يوميات «البطل المثقف» فجعلت منه شاهدا على خراب المدينة، وعلى موت شخصياتها القربانية، وعلى نحو يجعل من «المثقف المديني» مصابا أكثر بحثا عن الحلم، واكثر تلذذا بسردية الاسترجاع، إذ يجد في النبش الوثائقي والسيري نوعا من التعويض والإشباع الرمزي، والإيهام بغواية البحث عن تعالٍ جمالي ووجودي كنقيض تطهيري للواقع المهروس بالعنف والحروب، وبالأدلجات القهرية، وبالمركزيات المضللة.
إن غياب سردية المدينة، وتشوه صورة مثقفها، تدفع لاستعادة وجودها الغائب عبر مدن متخيلة، أو عبر شخصيات ثقافية تتفجر ذاكرتها عن يوميات، وعن خيبات، وعن سخرية مرة، تفضح عن صورة بطلها المأزوم، المحاصر باغترابات داخلية، أو الموهوم بأنماط متعالية للوعي الثقافي الشائه، وللانخراط في تشكيلات سياسية/ أيديولوجية انتهت إلى تمثيلات مركزية، وإلى تراجيديات جعلتها أكثر توزعا بين «الأضوحية» و»الحلمية» وعلى نحوٍ جعل من وجودها مُهددا على الدوام، إذ هي مراقبة من سلطة غامضة، ومسكونة بفوبيا وجودها أو ماضيها، فلا تجد نفسها إلا أمام عالم غرائبي دوستوبي تتحول فيه المدينة إلى هابيتوس مضلل، من الصعب التعود عليه، أو الانخراط في رمزيته ووجوده.

المصدر: 
القدس العربي