بمناسبة ذكرى الحادي عشر من أيلول ( سبتمبر) نعيد نشر لقاء كنا اجريناه مع المفكر والباحث المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري حول انعكاسات احداث سبتمبر على الخطاب والفكر العربي بمناسبة مرور عام على احداث 11 سبتمبر.
- اليوم... وبعد مرور عام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كيف تقرأ هذا الحدث؟
@ من المصادفات أنني كنت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي نيويورك بالذات، في ذلك اليوم، وشاهدت الأحداث بنفسي. ولكن الأهم من ذلك هو أنني، كما هو شأني دائماً، كنت أرصد المجتمع الأمريكي، ثقافته - رؤيته لنفسه - رؤيته للآخر. ولأخبرك بما شاهدنا على شاشات التلفاز الأمريكي يوم الاثنين 10 سبتمبر/أيلول. كانت الأخبار تركز على تلك الأمور التي يعتبرها المجتمع الأمريكي (هامة) و(حيوية) مثل سمك القرش الذي يطارد المصطافين في فلوريدا؛ سقوط طائرة صغيرة تحمل مغنية اسمها علية؛ محاولة للإجابة عن السؤال الحيوي التالي: هل يُسمح للطالبات بالذهاب للمدارس الثانوية بالبلوزة القصيرة التي تظهر بطونهن أم لا؟ - آخر الأخبار الخاصة بشاندرا ليفي مساعدة عضو الكونجرس ليفيت، والتي اختفت في ظروف غامضة (ولم يذكر التلفاز شيئاً عن أن ليفيت هو رئيس لجنة المخابرات في الكونجرس، وإن ذكرت هذه الحقيقة فهي عادةً ما تذكرها دون استخلاص أية نتائج، وخاصة أن شاندرا ليفي يهودية)، أما القضية الفلسطينية فلم تذكر إلا بشكل عابر.
ويبدو أن المؤسسة الأمريكية الحاكمة (بمساعدة النخبة الاقتصادية العسكرية) قد نجحت في فرض شكلٍ من أشكال تقسيم العمل والتخصص على المجتمع الأمريكي. فتقوم هذه المؤسسة الحاكمة برسم السياسة الخارجية ومعالجة قضايا الأمن الخارجي على أن يُترك لجماهير الشعب الأمريكي قضايا داخلية محلية محضة مثل مستوى التعليم في المدارس، ومدى نقاء مياه الشرب، وقضايا الأمن الداخلي مثل تزايد معدلات الجريمة. أما قضايا مثل الشرق الأوسط أو مشكلة كشمير فهي قضايا لا تعني الشعب الأمريكي، ولا تحدد موقفه تجاه ممثليه المنتخبين. ولذا ليس من المستغرب أنه حينما تُذكر أحداث العالم الخارجي في النشرات الإخبارية فإنها تذكر بشكل سريع، وكأنها لا تزيد في أهميتها عن حادث حافلة أدى إلى مقتل اثنين وجرح أربعة!.
الحاكمة تراجعت عن موقفها، وبدأ بوش يتحدث عن ضرورة التشاور مع حلفاء أمريكة قبل أن يُقدم على ضرب العراق.
إن الجماهير الأمريكية تعيش من يوم إلى يوم، غارقة في الحسابات الاقتصادية الصغيرة المباشرة: نسبة التضخم - أسعار الأسهم والسندات - نسبة الفائدة على القروض وعلى الودائع - حالة الطرق. وهي لا تربط بين هذه الحسابات والسياسة الخارجية الأمريكية أو ميزانية الدفاع أو المعونات الخارجية التي تدفعها الولايات المتحدة. وبهذه الطريقة نجحت المؤسسة الحاكمة في تسيير المجتمع الأمريكي وفي فرض سياساتها وتحقيق قدرٍ كبير من السلام الاجتماعي دون اللجوء للبطش أو القسر، لأن الصحافة الأمريكية، وخاصة الشعبية واسعة الانتشار، والقنوات التلفازية المختلفة تساهم بشكل ملحوظ في فرض هذا التقسيم للعمل والتخصصات. لكل هذا يمكن القول: إن أول انعكاسات أحداث سبتمبر /أيلول على المجتمع الأمريكي هو أن الشعب الأمريكي، لأول مرة في تاريخه، يرى أثر السياسة الخارجية على الجبهة الداخلية. إن أحداث سبتمبر/أيلول كانت تشبه الصدمة الكهربائية من بعض الوجوه، مما أدى إلى إفاقة بعض قطاعات الشعب الأمريكي التي بدأت تمارس إحساساً غامضاً بأن أمنها الداخلي مرتبط بشكل ما بالسياسات الحكومية الخارجية والعسكرية في أنحاء العالم، وأن هذه السياسات لا تخدم بالضرورة مصالحها. وقد حاول الصهاينة أن يصوروا أحداث سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة على أنها مجرد إرهاب يعبر عن شر متأصل في الإسلام والمسلمين، وكأنما ليست لها أية أسباب اجتماعية أو تاريخية، وكأنها منبتة الصلة بمواقف أمريكة المتحيزة بشكل فاضح لإسرائيل. وعزل الظواهر السياسية عن أسبابها وجذورها الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية هو أحد الأساليب الأساسية التي يستخدمها الصهاينة لتشويه صورة الآخر؛ فالمقاومة الفلسطينية - كما يفسرونها للعالم - ليست مقاومة للاحتلال الإسرائيلي والاستيطان السرطاني في الضفة الغربية، وإنما هي تعبير عن رغبة الفلسطينيين المجنونة في الانتحار، وفي قتل الأبرياء من الإسرائيليين. والمحصلة النهائية لمثل هذا الخط الإعلامي أن الولايات المتحدة راحت تتحدث هي الأخرى عن الإرهاب الإسلامي، شأنها في ذلك شأن الدولة الصهيونية. وقد نجح الصهاينة في حملتهم هذه بعض الوقت، ولكن بدأ الكثيرون ومن النتائج الخطيرة الأخرى لأحداث سبتمبر/أيلول أن النظام الاقتصادي الأمريكي، المبني على الحركة والحرية والأبواب المفتوحة والخصخصة، تداعى إلى حد ما. خذ على سبيل المثال: الخصخصة. قبل أحداث سبتمبر/أيلول كانت قد تمت خصخصة كل شيء تقريباً، بما يعني تطبيق آليات السوق وقوانينه على كل مناحي الحياة، أن تشتري بأرخص الأسعار وتبيع بأعلاها، وكانت النتيجة أن معظم رجال الأمن في المطارات كانوا يتقاضون الحد الأدنى من الأجور (أرخص الأسعار أي 6 دولار في اليوم مقابل 15 دولار في أوربة) ومن ثم، لم يتم اختيار أحسن العناصر، وأصبح رجال الأمن من أكثر العناصر تسيباً، وخاصة مع إيقاع المجتمع الأمريكي السريع. كان ركوب الطائرة يستغرق بضعة دقائق، تنزل من السيارة فتجد على الرصيف مباشرة مكتب التذاكر والحقائب، فترمي حقيبتك للموظف المسؤول الذي يعطي ورقة المرور، ويخبرك عن رقم البوابة وتستغرق العملية كلها بضع دقائق. إيقاع الحياة كان سريعاً بشكل لا يمكن تصوره، مما جعل حركة الاقتصاد سريعة لأقصى درجة. ولكن كل هذا تغير بعد 11 سبتمبر/أيلول، حيث لم يعد هناك شعور بالأمان أو الاستقرار، وأصبح الإيقاع السريع، المبني على التساهل في كل الإجراءات الأمنية، أمراً مستحيلاً مما يعني أن أسلوب الحياة، ومن ثم، طبيعة الاقتصاد لابد أن تتغير، ومن ثم، ستتراجع دورته.
والظلم، فهي لا يمكنها أن تميز إلا بين القوي والضعيف. ولهذا ترجمت نفسها إلى إمبريالية. يجب أن تبعث روح المقاومة الإسلامية لا على أساس كره (الآخر)، وإنما على أساس الالتزام بالعدل قيمة أساسية.
أضف إلى هذا تكاليف ما يُسمى بالحرب ضد الإرهاب والاعتمادات الضخمة المخصصة لها، حتى إن ميزانية الدفاع هذا العام هي أكبر ميزانية شهدتها الولايات المتحدة. وخاصة أن هذه الحرب ستستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعاً. النظام الأمريكي كان يود في البداية إحراز نصر ساحق ماحق، يمكن من خلاله إعادة الطمأنينة للشعب الأمريكي، حتى يمكنه أن يعود لسابق عهده من الانغماس في تفاصيل حياته اليومية العادية، وحتى يمكنه أن يستوعب مرة أخرى في حلقة الإنتاج والاستهلاك ثم الاستهلاك والإنتاج. والطمأنينة أساسية للنظام الاقتصادي الأمريكي، لأنه إن لم يشعر الشعب الأمريكي بالطمأنينة فإنه لن ينفق دون تفكير ولن يقترض لينفق عن سعة، فهو لن يفعل ذلك إلا إذا كان متأكداً تماماً من المستقبل.
ولكن نتائج الحرب في أفغانستان لم تكن ساحقة أو ماحقة، ورغم أن الإعلام الأمريكي في البداية قرع طبول الحرب، ثم رفع رايات النصر، فإن علامات الاستفهام بدأت تظهر في الآونة الأخيرة. ولعل فرار بن لادن والملا عمر قد زاد من عدم طمأنينة الشعب الأمريكي، وزاد من الوعي بأن السياسة الخارجية على علاقة وثيقة بالوضع الداخلي، وخاصة أنه مع زيادة ميزانيات الدفاع والحرب، فإن النظام الأمريكي قد يُضطر إلى وقف كثيرٍ من البرامج الاجتماعية.
- وكيف ترى توجه السياسة الأمريكية الآن، وهل يمكن القول: إن قرار ضرب العراق قد اتخذ فعلاً؟
@ يتنازع السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الحاضر تياران: تيار متطرف بقيادة رامسفيلد وآخر معتدل بقيادة كولن باول. ويطالب الجناح المتطرف بتأجيج الحرب ضد الإرهاب وتوسيع مجالها بحيث يمكن ضرب العراق. وهو جناح يرى أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم، ولذا لابد وأن تتبع سياسة إمبراطورية، أي سياسة إمبريالية، تخدم المصالح الأمريكية من خلال اللجوء إلى القوة والهيمنة العسكرية والسياسية. وبطبيعة الحال يؤيد اللوبي الصهيوني هذا الخط الإمبريالي بكل قوة. ولكن المسألة، كما اكتشف دعاة الخط الإمبريالي، ليست بمثل هذه البساطة. فغزو العراق، وبناء إمبراطورية يتطلب خط إمدادات عسكرية طويلاً ومكلفاً. والاقتصاد الأمريكي لا يمكنه تحمل مثل هذا العبء. والطريف أن دعاة الخط الإمبريالي من المدنيين، فيما يقف ضده أعضاء المؤسسة العسكرية، مما دعا أحد المعلقين إلى القول: كنا نخاف أن يقوم العسكريون بانقلاب ضد المدنيين، ولكننا نخشى الآن من انقلاب يقوم به المدنيون ضد العسكريين. وأضاف هذا المعلق قائلاً: إن دخلنا العراق، هل سيمكننا أن نخرج منها على التوّ أم إننا سنضطر إلى البقاء فيها عشر سنوات، وإذا أقمنا حكومة جديدة على طريقة حكومة كرزاي في أفغانستان، فهل سيكتب لها الاستمرار؟ وتنبأ المعلق أن مثل هذه الحكومة لن يزيد عمرها عن عشر دقائق. وقد تعالت أصوات كثيرة في الكونجرس والإعلام معارضة ضرب العراق، حتى إن المؤسسة الأمريكية الغرب وكل أنحاء العالم بدأت تدرك أبعاد الكارثة التي يمكن أن تحيق بنا إذا مضينا في طريق الحداثة الداروينية، ومن ثم بدأت تنادي بالحداثة الإنسانية.
- وكيف ترى انعكاس هذا الحدث على الخطاب الإسلامي والحركات الإسلامية، وماهي أولويات هذه الحركات في المرحلة القادمة؟
@ بطبيعة الحال، فإن أحداثاً بضخامة أحداث 11 سبتمبر/أيلول لابد أن تترك أثرها على الخطاب الإسلامي والجماعات الإسلامية بل على العالم بأسره، وخاصة أن المؤسسة الحاكمة الأمريكية استجابت للأحداث بطريقة - في تصوري - إمبريالية غبية. فبدلاً من محاولة فهم أسباب هذه الأحداث ودوافع من قاموا بها، عرضت المؤسسة بعض الصور السينمائية والصيغ اللفظية الاختزالية مثل: أمريكة في حالة حرب - أمريكة تستيقظ - لا بد من زيادة الاحتياطات الأمنية - الحرب ضد الإرهاب - الحرب ضد محور الشر إلخ. وهذه الاستجابة الأمنية العسكرية لقضية ذات طابع سياسي وحضاري قد يدفع بعضهم إلى رد فعل أمني عسكري، وهذا ما يجب الابتعاد عنه. يجب على الجماعات الإسلامية أن تعيد النظر في أساليب عملها، فاللجوء إلى العنف ضد الدولة الحديثة، صاحبة الأجهزة الأمنية والعسكرية القوية، أمر غير مجد. لابد من العمل داخل القنوات الاجتماعية والسياسية القائمة. هذا لا يعني التعاون مع النظم العسكرية والمدنية الباطشة، وإنما يعني ضرورة التوجه للجماهير، وهي جماهير متعطشة للدموقراطية وللمشاركة في صنع القرار. في الوقت ذاته لا بد من توسيع آفاق الخطاب الإسلامي، وهو خطاب يُفترض فيه أنه موجه (لكل الناس) وليس للمسلمين وحسب. ولذا فبرنامج الإصلاح الإسلامي لابد أن يتوجه لمشكلة الأقليات العِرقية والدينية التي تعيش بين ظهرانينا، ولابد من إدخال الطمأنينة على قلوب أعضائها لكي يشعروا أنهم جزء من الأمة، وأن رموز هذه الأمة لا تستبعدهم ولا تحولهم إلى (الآخر). وأعتقد أن الخطاب الإسلامي قد فشل حتى الآن في إنجاز هذا (فيما عدا بعض المحاولات الجادة التي لا تزال هامشية مثل محاولة (حزب الوسط) في جمهورية مصر العربية). ولعل الإصرار على الدموقراطية مطلباً أساسياً سيكون وسيلة هذه الجماعات لإدخال الطمأنينة لا على قلب أعضاء الأقليات وحسب، وإنما على قلوب أعضاء الطبقات المتوسطة العلمانية (أو شبه العلمانية حيث إن معظمهم متمسك بأهداف الأخلاق الدينية). وهذا يتطلب أن توضح الجماعات الدينية موقفها من القومية العربية، وتبين أنه لا يوجد أي تناقض بين الأممية الولايات المتحدة.. ولكن الإدارة الأمريكية لا تفهم إلا رسائل المقاطعة والرسائل النقدية والرسائل المسلحة، أما أن تبعث برسائل توسل فهذه لن تجد من يفهمها أو يعيرها انتباهاً، لأننا نعيش في عالم وثني لا يعرف الحق ولا العقل. إن الولايات المتحدة تؤيد شارون حين يقوم بطرد الفلسطينيين وقتلهم، فأي عقلانية هذه. مسألة ربط العقلانية بالدمقراطية الغربية أكذوبة كبرى، وكما بينت في كتابي العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة... ستالين كان علمانياً... وروبسبيير هو الآخر كان علمانياً... التجربة الإمبريالية علمانية... التجربة النازية علمانية... فربط كل من العقلانية والدمقراطية بالعلمانية مسألة ليس لها أي سند تاريخي، وعندما نشاهد تأييد الولايات المتحدة لشارون وللدولة الصهيونية فهل يدل هذا على العقلانية الأخلاقية أم اللاعقلانية الداروينية. إن الإنسان اللاعقلاني لا يمكن الحوار معه بشكل عقلاني هادئ، لابد أن تحدثه بلغة يفهمها؟ ولهذا فأنا أطالب بالاستمرار في المقاومة بكافة أشكالها، بما في ذلك المقاطعة الاقتصادية، على أن تستمر في إرسال رسائل إلى العالم الغربيين وإلى الولايات المتحدة، باعتبارها الراعي الأساسي للدولة الصهيونية.
الإسلامية والقومية العربية، فالإسلام عبر تاريخه لم يقض على التجمعات القومية والعِرقية والدينية المختلفة. ولا يزال العالم الإسلامي فسيفساء إنسانية رائعة من هذه التجمعات (على عكس أوربة حتى قامت الدولة القومية العضوية بتصفية كل الجيوب الاثنية والدينية واللغوية). كما أنه يجب توضيح قضية تطبيق الشريعة وفتح باب الاجتهاد بخصوص هذه القضية، على أن يهتدي المجتهدون بالقرآن والسنة والممارسات الإسلامية السابقة، وألا يسقطوا في الحرفية (وهي مختلفة عن الأصولية)، فالحرفية في تصوري تهدد الدين. فإذا كانت الحرفية تبقى على السطح، فالاجتهاد الحقيقي يحاول الوصول إلى البنية الكامنة التي يمكن تنزيل الأحكام منها على واقعنا المعاصر. وأعتقد أنه في محاولة الاجتهاد هذه لابد من استرجاع وتأكيد القيمة القطب في الإسلام: العدل. وهذا ما تنساه بعض الجماعات الإسلامية التي تركز على تطبيق الحدود وإقامة المناسك دون ربطها بهذه القيمة الكبرى، ذات القيمة التعبوية الهائلة، لكل أبناء الأمة بما في ذلك أعضاء الأقليات وأعضاء الطبقات المتوسطة شبه العلمانية. وقيمة العدل ستكون نقطة الانطلاق في نقد الحضارة الغربية المبنية على اقتصاديات السوق والتي تنادي بحداثة منفصلة عن القيمة، وهي في الواقع حداثة داروينية لا تميز بين العدل
- وكيف تتوقع اتجاه العلاقة بين الغرب والإسلام على ضوء هذه الأوضاع؟
@ العلاقة مع الغرب كان يشوبها دائماً توتر كبير، فالغرب يدور في إطار الحداثة الداروينية أو الحداثة الإمبريالية، ويمكن القول إن الحداثة الداروينية هي النموذج الحاكم في العالم بأسره، والغرب باعتباره التكتل الأقوى في العالم نجح في تحويل العالم إلى مادة استعمالية تُوظف لصالحه هو، وليس لصالح البشرية جمعاء. ولكن ظهرت أصوات داخل الغرب وخارجه تقول بأن الحداثة يجب أن تكون مشروعاً لكل البشر. فهناك جماعات الخضر والمعارضون لمنظمة التجارة العالمية في الشرق والغرب، وتشكل الشعوب الإسلامية وشعوب العالم الثالث، بما في ذلك الشعب العربي، جزءاً هاماً من هذا التكتل الذي ينطلق من مقولة إنسانية بسيطة، وهي أن الكرة الأرضية هي ملك لنا جميعاً، وليست مقصورة على الإنسان الغربي الذي يشكل 20 بالمئة من مجموع البشر، ومع هذا يستهلك 80 بالمئة من المصادر الطبيعية بما سيودي بنا جميعاً إلى التهلكة. ويُقال إنه لو حققت كل المجتمعات البشرية لأعضائها المعدلات الاستهلاكية نفسها التي حققتها المجتمعات الغربية للإنسان الغربي، فإننا سنحتاج إلى خمس كرات أرضية أخرى مصدراً للمواد الطبيعية وسنحتاج إلى كرتين أخريين للتخلص من النفايات. الحداثة الداروينية الإمبريالية (الحداثة الغربية المنفصلة عن القيمة) ما هي إلا منظومة القيم الداروينية، والتي جعلت من الاستهلاك الهدف الأسمى الوحيد، والتي لا تعترف بإنسانيتنا المشتركة) هذه الحداثة أدخلتنا جميعاً، بما في ذلك الإنسان الغربي، طريقاً مسدوداً، وأزمة بيئية بدأت آثارها تظهر بشكل واضح: فيضانات في أماكن وجفاف في أماكن أخرى؛ حرارة متزايدة؛ ثقب الأوزون. في مقابل هذا أعرض ما أسميه (الحداثة الإنسانية)، وهي الحداثة التي لا تنكر أهمية التقدم والعلم والتكنولوجية، ولكنها لا تجعل الاستهلاك هدفاً أسمى، بل تجعل الهدف من الوجود الإنساني أن يتوازن الإنسان مع نفسه ومع الطبيعة، وهي حداثة ترى أن ثمة إنسانية مشتركة، وثمة أجيالاً ستأتي بعدنا ولابد ألا ننكرها حقها في الحياة. وهذه الرؤية، كما أسلفت، ليست مقصورة على المسلمين أو العرب، بل هناك أصوات في فالصراع الحالي ليس صراعاً بين الإسلام والغرب، وهو ليس صراع حضارات، وإنما صراع بين الحداثة الداروينية والحداثة الإنسانية. ونحن المسلمين ممثلون بشكل واضح في الحداثة الإنسانية. فنحن الذين ندافع عن إقامة العدل في الأرض وعن القيم وندافع عن التراث وعن الهوية الثقافية... ونشكل عموداً فقرياً قوياً في هذا المضمار، قد تبدو الحرب وكأنها بين المسلمين والغرب، ولكنها في واقع الأمر حرب بين شكلين من أشكال الحداثة. شكلين من أشكال الإنسانية: إنسانية إمبريالية، وإنسانية المظلومين الذين يحاولون الحصول على حقوقهم.
- على صعيد الصراع العربي - الإسرائيلي بعد أحداث سبتمبر. كيف تتوقع مستقبل هذا الصراع؟
@ أنا أعتقد أن الصراع دخل في مرحلة حاسمة للغاية، وليت الإعلام العربي يقرأ الصحف الإسرائيلية بذكاء ... أو حتى بدون ذكاء، وينشر ما يكتبون، أنا أعتقد أن الكيان الصهيوني قد ترنَّح تماماً، بمعنى أن الحلم الصهيوني قد انتهى (ولتلاحظ كلماتي جيداً، أقول (الحلم الصهيوني) وليس الكيان الصهيوني). كان الحلم الصهيوني مبنياً على أنه إذا استمر الصهاينة في ضرب العرب فإنهم سيخضعون في نهاية الأمر للبطش الصهيوني وسيذعنون للرؤية الصهيونية. في البداية كانوا يقولون: إن العرب سيرحلون عن الأرض، ولكنهم تحت ضغط الواقع أصبحوا يقولون إنهم سيقتسمون معنا الأرض على أن تنشأ دولة فلسطينية مخصية تكون بمثابة الشرطي الذي يصفي المقاومة ويقوم بالدفاع عن إسرائيل. ولكن انتفاضة الأقصى قضت على هذا الأمل الصهيوني الأخير، وبذلك انتهى الحلم الصهيوني وانتهى الإجماع الصهيوني، ولكن بدلاً منه ظهر الآن إجماع المستوطنين أي محاولة البقاء بأي ثمن خارج أية شروط إيديولوجية، ولكن البقاء بدون إيديولوجية مستحيل. ولذلك فإن من يقرأ ما يُكتب في الصحف الإسرائيلية يلاحظ مدى الفزع الذي يعيشون فيه ومدى فقدان الاتجاه. هناك العديد من أبناء النخبة الحاكمة انتقلوا للإقامة في الخارج، انتفاضة الأقصى المباركة خلقت معادلة جديدة. ولكن الشعب الفلسطيني غير قادر بمفرده على الإجهاز على الكيان الصهيوني، ومعظم النخب العربية الحاكمة لم تفعل شيئاً على الإطلاق بل أدمنت التوسل إلى
- هل يمكن أن يتم سلام مع الكيان الصهيوني الآن أم إن الأمر انتهى؟
@ دعني أولاً أشير إلى ما يلي: الظاهرة الصهيونية ليست ظاهرة يهودية، بل ظاهرة استعمارية استيطانية إحلالية ويجب إدراكها في هذا الإطار. وحسب تجربتنا التاريخية، لم يحدث أن توصلت أية كتلة استيطانية إحلالية إلى سلام دائم. فالسكان الأصليون، أصحاب الأرض، يقاومون الوافدين الغربيين وقد تعلمنا من التاريخ أيضاً أنه لم يكتب البقاء لأي جيب استيطاني إحلالي إلا عن طريق إبادة السكان الأصليين (أمريكة الشمالية - أسترالية) أما تلك الجيوب التي لم تنجح في تحقيق الإبادة، فقد انتهى بها الأمر إلى الزوال والاختفاء (الجزائر - جنوب إفريقية). ولا أدري لماذا نستثني الجيب الاستيطاني الإحلالي الصهيوني من هذه القاعدة التاريخية. وللإجابة عن سؤالك أذهب إلى أنه لا يمكن التوصل إلى سلام مع الكتلة البشرية الصهيونية الوافدة، لا لأننا نحب الحرب، وإنما لأن هذه الكتلة تريد اغتصاب الأرض وطرد سكانها لتحل محلهم، ومن هنا تلك القوانين الصهيونية، مثل قانون العودة، التي تشكل آلية تحويل الرؤية الصهيونية العنصرية إلى واقع استيطاني. وتحقيق سلام داخل الإطار الصهيوني أمر مستحيل، ولا بد من فك الكيان العنصري، ولا بد من إلغاء قوانينه العنصريـة، حتى يحل السلام الدائم العـادل، وهو دائم لأنه عادل. وأعتقد أن جنوب إفريقية مثل يُحتذى. فقد تم تحقيق السلام السياسي والاجتماعي عن طريق فك الجيب الاستيطاني واستيعاب المستوطنين البيض داخل الإطار الجديد، المبني على المساواة.