رغم أن احتفالية أزهار الكرز قد انتهت منذ أيام، لكن آثار الفرح الربيعي ما زالت على الأشجار. إنه منتصف شهر نيسان/أبريل وأنا على أعتاب نهاية مهرجان هانامي في اليابان، الذي يعني حرفياً «تأمل الزهور» حيث لا شيء يضاهي جمال زهور الكرز «ساكورا». يبدأ ربيع الكرز بهدوء في الجنوب ثم يمر على تضاريس اليابان وصولاً إلى الشمال، ورغم أن المثل الياباني يقول: الصمت زهرة. إلا ان الطقس الربيعي قد يتحول في أحيان كثيرة إلى عرض مسرحي ساحر، ترافقه الموسيقى والأضواء، ويجلس المشاهدون مع أطياب الطعام والشراب في ظلال الكرز. ورغم أن الساكورا ترمز إلى جمال الطبيعة، لكنه جمال فانٍ، فالأزهار تتساقط كنتف الثلج بعد أسابيع قليلة، كي تذكر اليابانيين أن الموت ملازم للحياة دوماً.
بلاد الشمس المشرقة «نيبون»
هي اليابان، لكنها بلغة أهلها نيبون، أي بلاد الشمس المشرقة.
تاريخياً عاشت اليابان حتى منتصف القرن التاسع عشر سنوات عزلة طويلة، أعقبتها فترة ازدهار اقتصادي، وطموح توسعي أفضى إلى احتلال كوريا، والدخول في حروب طويلة مع الصين. لكن كارثة القنبلة النووية، دفعت اليابان إلى التخلي عن حروب الجوار، والاهتمام بالدرجة الأولى بالتطور الاقتصادي، وهذا جعلها ثالث دولة صناعية في العالم. وهكذا نهضت اليابان من رماد الحرب وأصبحت بلد التكنولوجيا بامتياز، حيث الأتمتة في كل مكان ابتداءً بأبواب التاكسي التي تفتح وتغلق أوتوماتيكياً وصولاً إلى التواليت الآلي، الذي تأتيك فيه المياه الدافئة من حيث لا تدري، بل يمكنك حتى سماع الموسيقى الهادئة وأنت تقضي حاجتك. لكن قبل دخول الحمام يتوجب عليك ارتداء خفاف خاص لهذا الغرض، فالنظافة من شيم الثقافة اليابانية، والشوارع نظيفة، رغم غياب حاويات القيامة، وعليك كسائح أن تصطحب قمامتك إلى فندقك. أما الطعام فحدث ولا حرج عن النظافة وطيب المذاق، ويعتبر المطبخ الياباني غنيا وصحيا جداً، بسبب احتوائه على الكثير من الأسماك والثمار البحرية، بالإضافة إلى الأعشاب البحرية، وهذه الثروة المائية تعتبر مصدر فخر الأمة وسر المعمرين اليابانيين. ويمكن مشاهدة معلم السوشي مباشرة، وهو يحضر لفائف السمك النيء كالساحر، ثم يصف الأطباق على سكة دائرية، تصل في النهاية إلى القلب وتغازل العين قبل اللسان. وحتى سمك الفوغو السام وجد طريقه إلى الموائد اليابانية، لكن بشرط أن يمتلك الطاهي شهادة خاصة لتحضيره.
وبالطبع يبقى الأرز الطعام المقدس في اليابان، وقد يطهى أو تخمر حباته ليغدو نبيذاً. ولا بأس في أن يحلي المرء بحلوى مصنوعة من الشاي الأخضر المطحون، الماتشا. والماتشا في اليابان أشبه بالذهب الأخضر أو عشبة الخلود المفقودة. لكن مهما كانت الخدمة ممتازة والطعام شهيا، لا يحبذ تقديم إكرامية، وأحياناً يعتبر هذا إهانة، لأن خدمة الزبون مكرمة وشرف كبير. والتهذيب هو ملح اليابانيين الذي يسري في دمائهم، ويعتبر الصراخ جنحة أخلاقية، لا يعاقب عليها القانون، لكنها تثير الاستهجان. ولطف اليابانيين الشديد يجعلهم ينحنون للضيف، ويقدمون المساعدة لكل تائه، والتعبير عن الامتنان يكون بانحناءة صغيرة، وابتسامة عريضة مصحوبة بكلمة أريغاتو أي شكراً.
هكذا تقول الأغنية الشهيرة، وهذا الشعور سيرافقك دائماً في اليابان بغض النظر عن طول قامتك. فكل شيء صغير في اليابان، ابتداءً بالشقق الصغيرة الحجم، وصولاً إلى الأشجار القزمة المعمرة «بونساي» التي تزرع في أوانٍ فخارية وترمز إلى السلام الداخلي، وانتهاءً بشعر الهايكو ذي الأبيات القليلة والمعنى العميق.
عزلة اليابان
اليابان مؤلفة من آلاف الجزر، وهذه الجغرافيا ساهمت في زيادة عزلة اليابانيين، ولذلك يدرك اليابانيون أن الغريب عاجز عن فهم ثقافتهم، ولا يطالبونه بأكثر من احترامها، بل إن هناك في اليابان وزارة تعنى بشؤون الوحدة أو العزلة، وقد وصل هوس اليابانيون بالعزلة، حد اختراع مطاعم خاصة يتناول الزبون طعامه دون أن يضطر لرؤية مرتادي المطعم الآخرين، أو حتى النادل. وهناك مصطلح ياباني هو «هيكيكوموري» ويعني الانسحاب الاجتماعي، وهي حالة تصيب ما يقارب مليونا من اليابانيين من جميع الأعمار، حيث لا يغادر المنعزل منزله لشهور أو سنوات عديدة. وقد يخرج بعضهم ليلاً كالوطواط من أجل شراء المواد الغذائية، وجذور هذه الظاهرة مرتبط كثيراً بالخوف من الفشل، وعدم تحمل الضغوط الذي يمارسها المجتمع على أفراده، وبالإضافة للمنعزلين اليابانيين هناك «آكلي الحشائش» وهؤلاء ليسوا نباتيين بالضرورة، بل هم الجيل المضرب عن تذوق اللحم البشري، أو بعبارة أخرى الجيل المضرب عن الزواج. فالعمل لساعات طويلة تجعل الكثير من اليابانيين يجدون متعتهم في علاقات سريعة بلا أي التزامات، وهكذا يكتفي الكثيرون بعد نهار عمل شاق بوجبة طعام خفيفة مع زملاء المهنة، وغالباً في مطعم مجاور لمكان العمل، وهم في كامل أناقتهم الوظيفية، حيث لا وقت للعودة إلى البيت وتغيير الملابس، حتى إن بعضهم لا يصل البيت من شدة التعب، بل ينام على مقعد في حديقة عامة.
أما الأمومة فهي معضلة حقيقية، فقد يمنح رب العمل إجازة مرضية بسهولة، لكن إجازة الأمومة تمنح على مضض شديد. ولهذا تعاني اليابان من انخفاض نسبة الولادات، مقابل ارتفاع كبير في عدد المسنين، الذين قد يعملون حتى سن متقدمة في شتى المجالات، حيث لا وجود لأيد عاملة مهاجرة رخيصة، في مجتمع مغلق ومتجانس كالمجتمع الياباني.
كبيرة في اليابان
هكذا تقول الأغنية الشهيرة، وهذا الشعور سيرافقك دائماً في اليابان بغض النظر عن طول قامتك. فكل شيء صغير في اليابان، ابتداءً بالشقق الصغيرة الحجم، وصولاً إلى الأشجار القزمة المعمرة «بونساي» التي تزرع في أوانٍ فخارية وترمز إلى السلام الداخلي، وانتهاءً بشعر الهايكو ذي الأبيات القليلة والمعنى العميق. وكما العطر الثمين يوضع في قارورة صغيرة، هكذا هي اليابان.
خصوصية اليابان
اليابانيون يحترمون النظام والدقة في المواعيد، لهذا يسمون «ألمان آسيا» لكن قطار اليابانيين يتفوق بمراحل على القطار الألماني في دقة مواعيده ونظافة قاطراته، لكن رغم كل التقدم التقني، سيفاجأ السائح بصفوف الانتظار الطويلة في المطارات وأمام المطاعم، حيث الانتظار جزء من ثقافة اليابانيين، ولا بد من التحلي بالصبر، الذي يمنح متعة للأشياء وقيمة. وكما هي العادة في البلاد الآسيوية، يرتدي اليابانيون قناعاً للوجه للوقاية من تلوث الهواء، أو في حالة المرض، وفي أحيان كثيرة يوضع القناع عندما لا يتسع الوقت للماكياج، لكن لليابانيين قناعاً آخر، حيث يرد لطف اليابانيين في أحيان كثيرة، إلى الرغبة في تجنب المشاكل. وهذا النفاق أو الكذب الأبيض، إن صح التعبير، يقال له في اليابانية «هونيه» ويقابله مصطلح آخر هو «تاتيماي» أي التعبير الحقيقي عن المشاعر. ولعل المشاعر تترك على سجيتها في المعابد الكثيرة في اليابان، بعضها ينتمي للمذهب البوذي والغالبية تتبع ديانة شنتو، التي تعني طريق الآلهة، التي تعد بالآلاف في الطبيعة، ويتم تقديم القرابين لها وتعلق على أبوابها الأماني، وفي نهاية المطاف تعود روح الميت إلى الطبيعة في مثواها الأخير.
كوارث اليابان
لعل مرجع ديانة شنتو هو الخوف من جبروت الطبيعة، فعلاقة اليابانيين بالطبيعة شائكة جداً، حيث تقع اليابان في منطقة «الحزام الناري» وهي مفتوحة على البحر من جميع الجهات، وهذا يجعلها عرضة للكوارث الطبيعية بشكل دائم، وأخطر هذه الكوارث بلا شك هي الزلازل، حيث يضرب البلاد بلا توقف، ومع أن اليابانيين تمكنوا من تشييد أبنية مقاومة للزلازل، والأطفال يتعلمون باكراً أسس التعامل معها، لكن الطبيعة الجزرية لليابان هي مصدر خطر إضافي، فقد تعقب الزلزال موجة تسونامي قاتلة تقضي على الأخضر واليابس، كما حدث في مفاعل فوكوشيما، وأسفر عن أخطر كارثة نووية في العالم. ويعتقد اليابانيون أن الآلهة تسكن الجبال، ومن هنا ربما قدسية جبل فوجي، الذي يتصرف كإله أيضاً. في الطريق بين طوكيو وكيوتو لا يتوقف القطار السريع، لكن في لحظة ما سيبدو أن الزمن يتكثف في لحظة استثنائية، تجعل جميع الركاب يلتقطون بكاميراتهم، لحظة مرور فوجي أمام نوافذهم. وشعور الانبهار هذا يمتزج غالباً بالرهبة، حيث يتربع بركان فوجي أعلى الجبل، ورغم أن آخر نشاط له سجل في عام 1707، لكن من الممكن أن يعاود نشاطه في أي وقت. وفي نهاية المطاف الوقت من ذهب في اليابان والبلاد في حالة تطور سريع، لكن عقارب الساعة في فوكوشيما، ما زالت إلى اليوم تشير إلى لحظة الكارثة.
في طوكيو كل شيء يحدث اليوم وغداً، فطوكيو هي مدينة المستقبل، وفيها أكبر تجمع حضري في العالم على مساحة صغيرة نسبياً، وهذا جعلها مدينة شاقوليه بناطحات سحاب وحدائق معلقة. وهي أيضاً مدينة ملونة، حيث الإعلانات الضخمة في كل مكان، وممرات المشاة المخططة بالأبيض، يعبرها يومياً عشرات الرجال والنساء في طريقهم إلى مكاتبهم.
بين الماضي والحاضر
في طوكيو كل شيء يحدث اليوم وغداً، فطوكيو هي مدينة المستقبل، وفيها أكبر تجمع حضري في العالم على مساحة صغيرة نسبياً، وهذا جعلها مدينة شاقوليه بناطحات سحاب وحدائق معلقة. وهي أيضاً مدينة ملونة، حيث الإعلانات الضخمة في كل مكان، وممرات المشاة المخططة بالأبيض، يعبرها يومياً عشرات الرجال والنساء في طريقهم إلى مكاتبهم.
لكن عند التقاطعات المزدحمة لا تتقاطع النظرات، ولا يقع اليابانيون في الغرام، فالوقت للعمل وليس لبناء عائلة أو تربية الأولاد. في المقابل يعبر الأولاد الشوارع بقبعات ملونة، كي لا تخطئهم العين ويرفعون سواعدهم وكأنهم يتابعون لعبة الشرطي مباشرة في الشارع. وعلى الرغم من ازدحام الشوارع لكنها في غاية النظافة، فلا أحد يتناول الطعام أو يرمي الأوساخ في الشارع، فهذا فعل مستهجن بشدة في اليابان. ومع أن مدينة المستقبل فيها مصاعد متكلمة، والكثير من الحديد والإسمنت، لكن قد يعثر المرء في شارع فرعي على بيوت خشبية ومعبد صغير. أما في العاصمة القديمة كيوتو، التي نجت من التدمير في الحرب العالمية الثانية، فقد تعثر فجأة بين البيوت التقليدية القديمة على تصميم مستقبلي كمحطة القطار الحديثة. هكذا هي اليابان عين على المستقبل وعين على الماضي، حيث يتعايش التاريخ مع التكنولوجيا، والثقافة مع الغيبيات.
أدب وفن
ربما تكون الكلمة اليابانية الأكثر انتشاراً في العالم هي «غيشا» التي تعني حرفياً فنانة. ورغم ارتباط المفهوم في ما مضى بالدعارة، لكن الغيشا اليوم هي امرأة قادرة على الرقص والغناء، والمؤانسة والكلام. وتجسد الغيشا مفهوم الجمال الياباني، بوجه بيضاوي وبشرة بلون البورسلين الأبيض، وفم بلون أزهار الكرز، وجيد طويل يطل بأنوثته من خارج الثوب التقليدي «الكيمونو» بأقمشته الجميلة والملونة. ورغم أن ثوب الكيمونو واسع وقماشه ثقيل، إلا أن المرأة في داخله تشبه فراشة ملونة. وربما يحتاج السائح في اليابان إلى مترجم فوري، فاليابانيون لا يتكلمون لغات أجنبية، لكنهم يقرأون كثيراً، ومن أجل هذا هناك حركة ترجمة مهمة في اليابان. قد يكون الروائي هاروكي موراكامي قد فتح عيون العالم على الأدب الياباني، لكن اليوم هناك جيل جديد من الكاتبات يكتبن عن وسائل التواصل الاجتماعية ومشاكلها، ويكتبن عن المهمشين والفقر المستتر، كما يتطرقن لمواضيع المثلية الجنسية وهموم المرأة، بعيداً عن شخصيات ماروكامي المسكونة بعوالم الرجال وهمومهم النفسية.
وليس بعيداً عن الأدب هناك السينما اليابانية، التي كانت بالنسبة إلى الكثيرين تذكرة عبور إلى البلد البعيد. ولعل فيلم «امبراطورية الحواس» لمخرجه ناغيسا أوشيما، يعتبر إلى اليوم درساً في السينما، والرغبة التي قد تفضي إلى الموت. عند تسلم جائزة الأوسكار عن مجمل أعماله، قال أوشيما: أعتقد أنني لم أفهم السينما بعد.
وفي النهاية، أشعر بأنني لم أتمكن بعد من فك رموز هذا البلد الساحر، والبعيد في أقصى الشرق، فكلما اعتقدت أنني امتلكت بعضاً من مفاتيح الأبواب الموصدة بعناية، اكتشفت أنني لم أتجاوز العتبة بعد.