تخطي إلى المحتوى
أحمد عبد اللطيف: من وظائف الرواية خلق حلم يتأسس عليه عالم أكثر عدالة .. يقول إن الترجمة مهنة ودراسة بينما الكتابة مشروع حياة أحمد عبد اللطيف: من وظائف الرواية خلق حلم يتأسس عليه عالم أكثر عدالة .. يقول إن الترجمة مهنة ودراسة بينما الكتابة مشروع حياة > أحمد عبد اللطيف: من وظائف الرواية خلق حلم يتأسس عليه عالم أكثر عدالة .. يقول إن الترجمة مهنة ودراسة بينما الكتابة مشروع حياة

أحمد عبد اللطيف: من وظائف الرواية خلق حلم يتأسس عليه عالم أكثر عدالة .. يقول إن الترجمة مهنة ودراسة بينما الكتابة مشروع حياة

حصل عبد اللطيف على جائزة الدولة التشجيعية في مصر 2011 عن روايته «صانع المفاتيح»، كما حصلت روايته «كتاب النحات» على جائزة ساويرس للأدب 2015، وهو مترجم أيضاً، فقد أنجز عدة ترجمات عن الإسبانية لأسماء بارزة، مثل جوزيه سارماغو، وجيوكوندا بيلي، وخوان مياس.

صدرت له أخيراً رواية «عصور دانيال في مدينة الخيوط» عن دار العين في القاهرة.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة والترجمة...

 

> كما يبدو، تطرح روايتك الأخيرة من خلال بطلها «دانيال» الأحلام كسبيل لليوتوبيا وتحقيق العدالة...

- أظن أن وظيفة الرواية، أو من وظائفها الأساسية، خلق حلم ما يتأسس عليه عالم أكثر عدالة، لكنها ليست العدالة المتحققة في النص بقدر التصور الذي يتركه في نفس القارئ. بهذه الطريقة يمكن التعاطف مع بطل «الجريمة والعقاب» حتى لو كنا ضد الجريمة نفسها التي يرتكبها. وهذا التعاطف هو سر إعجابنا بعمل أدبي، إذ بالتعمق في شخصية البطل نتعرف على المنطقة الرمادية في الطبيعة البشرية، والخروج من دائرة الأبيض كخير، والأسود كشر. من ناحية أخرى، اليوتوبيا بمفهومها الأفلاطوني لا تتحقق في «عصور دانيال» على أرض الواقع، إنما المتحقق يوتوبيا مضادة تمتد من الواقع إلى حلم اليقظة وتشغل منطقة خياله.

> كأنك تجمع في «مدينة الخيوط» بين الواقعية والسوريالية معاً.

- سؤال المدينة بتحولاتها شغلني منذ روايتي الأولى «صانع المفاتيح»؛ حيث المدينة الكابوسية التي يغدو سكانها صماً بكماً عمياً، وامتد في «عالم المندل» حين تحولت النساء إلى رجال والعكس، ثم أصابتها لعنة التشابه في «كتاب النحات»، وصارت مدينة حمراء في «إلياس». وفي الرواية الجديدة، تغدو مدينة تسكنها الدمى، وتنقسم إلى مدينة علوية وأخرى سفلية. في كل ذلك، كان الواقع نفسه دافعاً لبناء هذه المدينة الخيالية، والسوريالية هي الأسلوب الفني الذي يلائم هذا النوع من الأفكار، لأنه يحقق ما أسعى إليه من «باراديجم» جمالي. الأهم، وبعيداً عن الفن، وقبل الشروع في كتابة العمل، أرى الأشياء بهذه الطريقة، بمعنى أن الحدث اليومي يتخذ في ذهني صورة سوريالية أعيد إنتاجها مرة أخرى بإعادتها إلى الواقع، وأحياناً تكون الكلمات العامية العابرة ملهمة لي، كأن يقول أحدهم: «عامل ودن من طين وودن من عجين»، هذه صورة سوريالية تماماً تعبر عن هؤلاء الذين لا يريدون الإنصات، صورة مليئة بالفن الساكن في العامية المصرية. وهي بالنسبة لي إعادة للتفكير في الواقع، إذ أراه أكثر في المجرد والسوريالي.

> قسمت السرد بين 4 عصور، تتقاطع فيها النوستالجيا بآلامها مع الجريمة والغرابة، لماذا اخترت هذا البناء المنفصل للفصول، لرواية قصة البطل؟

- العصر مرحلة زمنية مكتملة في ذاتها، طويلة نسبياً، لها آثارها الملحوظة على العصور التالية. فمن ناحية المعنى، فكل عصر من عصور دانيال يسعى للاكتمال في ذاته، ثم مع تقدم الصفحات تكتمل العصور كتكامل قطع البازل أو الكولاج. ومن الناحية الفنية، داخل كل عصر فصول قصيرة، يعمل فيها المقص السينمائي لتقطيع المشاهد في الوقت المناسب، والعودة إلى الأحداث الرئيسية بتكرار لإضافة معلومات جديدة وبناء حقيقة جديدة عليها. هذه البنية، وهذا التكنيك، أكثر ما شغلني أثناء الكتابة، لأنها تمثل البعد الجمالي والفني الذي أسعى إلى تحقيقه داخل العمل، بطموح ألا تشبه بنيتها بنية عمل آخر، وأن يتحرر العمل من التأسيس على نموذج سردي سابق.

> يتقاطع العالم الداخلي للبطل، مع العالم الموازي الذي خلقه. نراه متوحداً مع ذاته وقادراً على التحرر منها أيضاً. كيف تعاملت مع تعقيد شخصية دانيال فنياً؟

- التعقيد لا يحدث عادةً في المضمون، وإنما في الشكل. كل حكاية مهما كان تعقيدها يمكن أن تكون بسيطة لو قررنا روايتها في المستوى الأول. التعقيد بدأ مع سؤالي من سيروي هذه الحكاية عن دانيال، ما موقعه منها ومدى معرفته لتفاصيلها، وهو السؤال الذي فتح أشكالاً متعددة للحكاية، وتطلب بالتالي رواة متعددين. أثناء بناء العمل، كان التماهي بين صوت الراوي المتعدد من ناحية، مع الحكاية المتعددة من ناحية أخرى، يفرض نفسه، كأن لكل صوت صدى، ولكل حكاية أصل وصورة. وكانت اللعبة الفنية أن يختلط الأصل بالصورة، والصوت بالصدى. بهذه الطريقة كل ما يبدو متناً في البداية يغدو هامشاً، فيما الهامش يحتل المساحة الكبرى.

> البطل الفرد يسود أعمالك، كما في «إلياس»، و«كتاب النحات»، وصولاً لـ«عصور دانيال»، هل يمنحك البطل الوحيد فرصة أوسع لتأمل أسئلتك في الكتابة؟

- الكاتب في النهاية فرد يجلس في غرفة يكتب إلى فرد جالس في غرفة عن فرد له حكاية، بهذه الطريقة يمكن فهم الإنسان كفرد وليس كجماعة. هذا المفهوم يتكامل مع العصر الحديث الذي نتحرك فيه جميعاً كأفراد. وفي كتابتي هذا النوع من الفردانية والاستقلال، فهم ليسوا أفراداً فحسب، بل وحيدون أيضاً، خارجون على الجماعة وغير قادرين على الانسجام مع المجتمع. إنها أزمة الإنسان المعاصر الذي يعيش في فقاعة. ومن الناحية الفنية، أميل لرواية البطل الأوحد والتعمق فيه، حتى في الروايات الملحمية مثل «كتاب النحات»، ورغم تعدد الشخصيات، فإن النحات نفسه كان الشخصية المركزية فلم توزع البطولة بالتساوي.

> في الرواية تحرر مقصود من علامات الترقيم، وكذلك فعلت في «مملكة مارك»، هل ثمة مبرر فني لذلك؟

- تتصل «عصور دانيال» بالقصة الأولى في «مملكة مارك» من حيث اللغة المتحررة من علامات الترقيم، وكلاهما يتصل برواية «إلياس»، في سعي كل منها لخلق لغته الخاصة والتجريب في اللغة، أو بالأحرى، تحقيق إيقاع لغوي جديد يناسب توتر البطل ويتناغم مع سرعة الأحداث. كل هذه الأعمال تطمح إلى تشييد رواية مسموعة بصوت البطل، نبضات قلبه واضطرابه، البطل المأزوم أو البطل التراجيدي، واللغة هنا ليست وسيلة جافة للتوصيل، وإنما عنصر جمالي أساسي، ومشكلة حقيقية، أواجهها في كل عمل. لذلك، فتجربة قراءة «عصور دانيال» بصوت مسموع ستختلف عن قراءتها صامتة.

> تبدو المُصغّرات والمنحوتات البشرية، وأخيراً «الدمى»، من ملامح عوالمك الأدبية. ماذا تعني لك فنياً؟

- إذا كان من الصعب فهم الواقع لأنه كبير ومتسع، فالواقع المصغر يمكن فهمه. العملية تشبه أن نصنع خريطة للكرة الأرضية ونحن نعلم أنها ليست الكرة الأرضية بالطبع، لكن عبر الخريطة نشاهد المرتفعات والأنهار والمحيطات والحدود بين البلدان. الرواية بالنسبة لي تصغير للواقع، من ناحية، ومن ناحية أخرى عملية خلق يشبه فيها الكاتب النحات. لم أنطلق أبداً من شخصية أعرفها وأعيد تشكيلها فنياً، أبني شخصياتي وكأنها تولد للمرة الأولى، أصنع لها شكلاً وأفكاراً وأزمة. هذه الصناعة اليدوية سواء صناعة تمثال صغير من الصلصال أو تشييد بناية بالمكعبات كانت هوايات طفولتي التي تحولت في شكل روائي مكتوب. وفنياً، تعني لي تجنب الواقع المباشر وصنع عالم موازٍ، بتعبير أومبيرتو إيكو.

> تنفتح أعمالك على فنون أخرى كالموسيقى والسينما، كيف ترى الرابط بين الفنون؟

- من مزاياها الكبرى، هذا التحالف بين الفنون. فالموسيقى ساهمت في خلق إيقاع لغوي لـ«عصور دانيال»، ومن قبلها «حصن التراب»، والسينما ساعدت في صنع تكنيك يجيد توزيع المعلومة في «إلياس». من ناحية أخرى، أرى الموسيقى سردية بدون كلمات، والسينما صورة تحتاج إلى تفسير. والرواية هي همزة الوصل بين الفنين، هي لسان هذا الجسد الصامت.

> هناك أيضاً ارتباط وثيق في أعمالك بالتراث والتاريخ...

- ليس فقط الكاتب ابناً لثقافته، بل إن هذه الثقافة يجب أن تظهر في أعماله، فوظيفة الأدب أيضاً أن ينبش في الثقافة ويطرح أسئلتها، ولا يتنافى ذلك مع سؤال الإنسان في أي مكان. أما المعاصرة فتلامس أكثر التكنيك، الأسلوب، البنية، ثم الموضوع الحالي مثل التكنولوجيا الجديدة مثلاً، وهو موضوع يختلف أيضاً في تلقيه من ثقافة لأخرى. أحب أن يعرف القارئ أني كاتب مصري من خلال نصوصي، حتى لو كانت المدينة متخيلة.

> قمت بترجمة أعمال أدبية لأجيال مختلفة في الرواية المكتوبة بالإسبانية، من خوان مياس، لجيوكوندا بيلي، لأندريس باربا، ومن قبلهم جوزيه ساراماغو. برأيك؛ ما الخيط الذي يمنح الرواية المكتوبة بالإسبانية لوناً خاصاً يجذب الناشر والقارئ العربي على السواء؟

- استطاعت الرواية المكتوبة بالإسبانية منذ منتصف الخمسينات أن تفرض نفسها على العالم برؤيتها الجديدة ومنظورها الفني، وجاء تيار الواقعية السحرية لينقذ فن الرواية من الضجر. منذ ذلك الحين، تعهدت هذه الرواية بتطوير فن السرد، وساهم كتّاب من أجيال مختلفة في طرح أسئلة فنية هامة تخص اللحظة الآنية، كما تخص الفن الروائي.

> تجمع بين الترجمة والكتابة الأدبية، هل تتأمل كل منهما كعمل مستقل، أم يصعب عليك الفصل بينهما وجدانياً؟

- أتعامل مع الترجمة كمهنة ودراسة، وهو عمل يستفيد من موهبة الكتابة والعلاقة باللغة، ويتطلب متابعة تطورات اللغة الأجنبية والاطلاع على الأدب الجديد. أما الكتابة فمشروع حياة، بالتالي هي بحر تصب فيه كل الأنهار، سواء نهر الترجمة أو القراءة أو تجاربي الحياتية وتأملاتي.

> ما الذي يمنحه السفر لك والتنقل بين ثقافة مدينتين، القاهرة ومدريد؟

- السفر يمنح الشك في الثوابت، والحيرة واللايقين، ويمنح انفتاح الرؤية على حقائق متعددة وكثير من التواضع.

> أهديت روايتك «للطفل الذي كُنته»... ما الدافع وراء ذلك؟

- لسنوات طويلة كانت مرحلة الطفولة غائبة عن ذاكرتي، كأنها لم تكن، ثم فجأة استردتها ككنز ضائع. وفي «عصور دانيال» أردت استحضار هذا الطفل بقوة واستمعت له، فمنحني أكثر مما أنتظر.

المصدر: 
الشرق الأوسط