لا تزال الكتابة عن الأندلس تحظى باهتمام كبير لدى الروائيين العرب، يتجلى في وجود رؤى أدبية مختلفة للتاريخ الأندلسي، بما يمثله من تواصل مع ذاكرة بعيدة، جسدت عصراً ذهبياً من الازدهار الثقافي والعلمي والفلسفي. ما سر السحر الذي تمارسه الأندلس على الروائيين العرب الجدد والشباب، حتى ليمكن الكلام عن تراكم روائي في هذا الصدد، قد يتحول استعادة متكررة؟
لا يبدو اهتمام الروائيين العرب بتاريخ الأندلس مجرد صدفة، أو مجرد رغبة في العودة إلى مرحلة معينة من التاريخ، بقدر ما ينبع من تفاعل معقد بين الأسباب التاريخية والثقافية والرمزية، التي تهدف إلى استحضار حقبة طويلة زمنياً، استمرت لعدة قرون، أثناء الحكم العربي في الأندلس من عام 711م، حتى زواله عام 1492م، مع سقوط غرناطة. أدى التمازج الحضاري والديني، والتأثير العربي والإسلامي خلال تلك السنوات الممتدة، إلى تقدم كبير في مجالات مختلفة، مثل الرياضيات والفلك والطب والعمارة والأدب. فالأندلس لم تكن مجرد أرض جغرافية، بل جسراً بين الحضارات، وحاضنة للفكر والثقافة، امتزجت على أرضها العلوم والفنون، لتضيء الطريق نحو النهضة الأوروبية الحديثة.
ربما تُمثل الأندلس بالنسبة إلى الكتاب العرب المعاصرين، في أحد الجوانب، فترة من الذروة الفكرية والثقافية، التي تتناقض بشكل حاد مع التحديات السياسية والاجتماعية المعاصرة، التي يواجهها العالم العربي، ومن جانب آخر فإن الكتابة عنها تُعتبر أرضاً خصبة للسرديات، التي تستكشف موضوعات الخسارة والغزو والتعايش، وفقدان الهوية الثقافية، والتأثيرات الاستعمارية، والحنين إلى الماضي.
هل لأن الموضوعات التي تنبثق من التاريخ الأندلسي، مثل المنفى والهوية وتقاطع الثقافات المختلفة، تبدو ذات صلة لا تُصدق بعالمنا اليوم، حيث قضايا النزوح والهجرة تجد مرآة تاريخية في الشتات المسلم واليهودي من إسبانيا، مما يجعل الأندلس مكاناً مقنعاً لاستكشاف هذه القضايا المعاصرة والآنية، والمنعكسة بقوة على الزمن الحالي.
المجد المفقود
تعددت الأعمال الروائية التي تناولت الحقبة الأندلسية، والتي أصبحت تُعتبر من الكلاسيكيات المرجعية لكل من أراد الكتابة عن الأندلس، ومن أبرزها: "ليون الأفريقي" لأمين معلوف، "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، "البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج، "حصن التراب" لأحمد عبد اللطيف، "هذا الأندلسي" للمغربي بن سالم حميش، "رحلة الغرناطي" لربيع جابر، "راوي قرطبة" لعبد الجبار عدوان، إضافة إلى قائمة من العناوين الأخرى.
هويات مغايرة
تأتي رواية "موجيتوس" للكاتب المصري منير عتيبة كعمل سردي تخييلي، يحاول سبر أغوار منطقة مختلفة من التاريخ الأندلسي، يقدم السرد أسئلة متعددة حول إحساس الفرد العربي بتفرد هويته، وحلمه بالنصر المادي والمعنوي، الذي يتحقق من خلال التوسع الجغرافي والاقتحام والغزو. يتقاطع الهدف الأيديولوجي المتمثل في إرضاء الله، مع الطموح الدنيوي للفوز بالغنائم. يستهل الكاتب روايته في اختيار عشرين بحاراً ليصبحوا أبطال مغامرته، إذ يتفقوا على بناء سفينة لغزو جزيرة صقلية. غير أن الأقدار، تدفع بهم إلى سواحل جنوب فرنسا. هذه الحادثة، التي مرَّ عليها التاريخ الرسمي بلمحة عابرة، كما يروي عتيبة، تتحول في رواية "موجيتوس" إلى محور مركزي للأحداث.
حكاية جديدة
في رواية "حكاية جديدة للأندلس"، الحاصلة على جائزة الشيخ راشد بن حمد الشرقي للإبداع عام 2020، اختار الكاتب سراج منير مقاربة التاريخ من جانب الفانتازيا، في محاولة للقيام برحلة عبر الزمن. هكذا تبدأ حكاية الطبيب الشاب يزيد، الذي وُلد في أواخر القرن العشرين، ولديه هاجس تغيير مجرى تاريخ الأندلس. برفقته أربعة أشخاص، كل واحد منهم ينتمي إلى زمن مختلف، سافروا جميعاً عبر الزمن، بهدف منع محمد بن أبي عامر من تولي حكم الأندلس، والمحافظة على خلافة بني أمية، معتقدين أن هذه الخطوة ستكون بداية لتغيير مسار التاريخ الإنساني، وكي يحول دون وقوع الكوارث المرتقبة في القرن الثامن والعشرين. الرواية تمزج بين التاريخ الأندلسي والخيال العلمي، في اعتماد سردي على عنصر المغامرة والتشويق، ولا تخلو من أبعاد إنسانية واضحة. لعل أبرزها يكمن في فكرة قبول الآخر، وإمكانية أن تكون الأندلس نموذجاً للتعايش بين كل الأطراف المختلفة دينياً وعرقياً، بعيداً من الصراعات التي امتلأت بها كتب التاريخ.
من خلال هذه الشخصية يغوص الكاتب في تعقيدات العلاقات الإنسانية، بين مشاعر الحب والحرب، الصداقة والخيانة، والتوبة، والهزيمة، لنقرأ: "فُتحت باري بعد حصار، استطاع الأمير خلفون أن يدلف للمدينة عبر كهوف بحرية. لم تُسفك الدماء، فقد استيقظت المدينة والعرب على أسوارها وفي شوارعها، فأبرمت معاهدة أمان لأهلها المذعورين… فوق تل مرتفع خارج المدينة، كان ماركيزيو يقف صامتاً، يتابع اندفاع الجند خارج المدينة، تمنى ألا يموت سودان وجنوده، لكن بدا أن الأمر قد حُسم، وها هي المعركة تضع أوزارها بعد عام من الحصار براً وبحراً".
عذابات المورو
هناك أعمال روائية أخرى، ركزت في تناولها على حقبة الموريسكيين، كما في "الموريسكي الأخير" للكاتب المصري صبحي موسى، حيث يستعين الكاتب بالنقلات الزمنية، والإسقاطات التاريخية الزاخمة حول الأبطال، ليحكي عن سقوط الأندلس، مع إشارات لثورة يناير (كانون الثاني) 2011. والموريسكي هي تصغير لكلمة مورو، التي كان المسيحيون يستخدمونها لوصف المسلمين. وتعتبر مرحلة الموريسكيين واحدة من أشد الفترات قسوة في تاريخ المسلمين بالأندلس، وقد تلت سقوط غرناطة، الحصن الأخير للمسلمين في إسبانيا، رافق هذه المرحلة انتهاكات شديدة وقاسية، أجبرت المسلمين، الذين بقوا في البلاد على التحول إلى المسيحية، أو الرحيل عن الأندلس، لذا من بقي منهم تعرض لمراقبة صارمة للتأكد من صدق إيمانهم الجديد، وذلك في ظل محاكم التفتيش، التي اعتُبرت وصمة عار في التاريخ الأوروبي.
يقول عيسى بطل الرواية: "كان يمكنني أن أعيش حياتي كلّها كرجل إسباني كاثوليكي صالح، بلسان قشتالي، يُدعى خيسوس غونثالث، لولا بضع كلمات، أوصت أمّي، وهي تودِّع الحياة، بأن يخبرني خالي بابلو باييخو بها حين يرى أنني بتُّ أهلاً لذلك. تلك الكلمات هي: أنتَ عربي مسلم، واسمكَ عيسى بن محمّد". ولا يكتفي الكاتب المغربي حسن أوريد في رواية "الموريسكي" بتقديم قصة مأساة الموريسكيين في إسبانيا، ومعاناتهم من التطهير العرقي والديني، وتسليط الضوء على هجرتهم إلى المغرب؛ بل يُقدم بعداً أكثر شمولية، إذ تعكس الرواية معاناة الإنسان المعاصر، الذي يُجبر على الانفصال عن جذوره وهويته الأصلية.