بالقدر الذي تبدو أميركا فيه مجافية للإسلام؛ تخطط لإقصائه على الصعيد الرسمي، مثلما تخطط لاحتواء أبنائه من المهاجرين إليها على الصعيد الاجتماعي.. تعد في الوقت ذاته أرضاً خصبة لتلقفه وتبنيه!!
"أميركا تراودنا عن نفسها" عبارة أطلقها جودت سعيد بعد عودته من رحلة إلى أميركا ألقى فيها عدة محاضرات حازت على إعجاب الحاضرين، وكتب بحثاً لمجلة (الدين والقانون) خصصت له عدداً خاصاً من المجلة لتوضيح الرؤية القرآنية للموضوع، وما قدمته من فكر قانوني متقدم سبق إليه الإسلام..
والإعجاب ذاته واجهه كل المحاضرين والكتّاب المسلمين المستنيرين؛ أمثال حسن الترابي، وطه جابر علواني، وعبد الوهاب المسيري، وهو ما يمكن أن يستنتج منه، قابلية الشعب الأميركي لتلقف الأفكار الجديدة على أساس عقلاني؛ لا تحول أوْهام العراقة القومية دونه، كما في المجتمع الأوربي مثلاً، فليس لدى المجتمع الأميركي هذه الأوهام، وأعرق مواطن أميركي لا تمتد جذوره الأميركية لأكثر من بضعة أجيال.
لقد تبنى الرؤساء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية النزعة الإيمانية للشعب الأميركي، ووضعوا عبارة in god we trust على عملتهم (الدولار) لتكون شعاراً يترسخ في ذاكرة الأجيال.. ومن المؤكد أنهم كانوا يقصدون الإيمان بالدين المسيحي، بل إن أوائلهم (بنيامين فرانكلين ولنكولن) حذروا من تسلل اليهود إلى المجتمع الأميركي، فاستطاع اليهود اختراق هذا التحذير، وتشكيل أكبر لوبي صهيوني سيطر على مراكز صنع القرار في أميركا، وأصبح النفوذ اليهودي الصهيوني في أميركا أمراً واقعاً؛ له وزنه في الانتخابات الأميركية، يخطب الكل وده، ولا يجرؤ أحد على نقده، على الرغم من ضآلة نسبة اليهود إلى الشعب الأمريكي!!
وهكذا استطاعت الديانة اليهودية أن تحجز لها مكاناً مرموقاً معترفاً به في أميركا، موازياً للديانة المسيحية، بل ومهيمناً عليها، على الرغم من التناقضات الكبرى بينهما، التي أمكن الالتفاف عليها عبر المسيحية الصهيونية، ونبوءات آخر الزمان.
المسلمون في الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من تفوقهم العددي على اليهود، وعلى الرغم من كون الإسلام سلة الأديان السماوية؛ يعترف بها جميعاً، وما خص القرآن الكريم به النصارى من المديح (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة:5/82]، وتخصيصه سورة كاملة للسيدة مريم، يقدم فيها أنصع سيرة لها ولابنها المسيح!!
وعلى الرغم من الصبغة العالمية للإسلام؛ التي توجه بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس (يا أَيُّها النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف:7/158] ..
على الرغم من كل ذلك، لا يزال الوجود الإسلامي في أميركا هامشياً، لا يرقى إلى المستوى الذي أراده الله تعالى له (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ) [الحج: 22/78].
***
أدعو المسلمين في خارج أميركا أن يكفّوا أيديهم، ويتعاونوا على محو الصورة السوداء التي قدموا الإسلام بها إلى المجتمع الأميركي، وأن يتحولوا إلى ما ندبهم الله تعالى إليه؛ دعاةً يملكون أنصع خطاب إنساني؛ البشرية أحوج ما تكون إليه اليوم لترميم فكرها المادي.
وأربأ بالمسلمين المهاجرين إلى أميركا؛ أن يقدموا أبناءهم وأحفادهم لأميركا؛ عجينة طيعة تصوغها على هواها؛ تجتث ذاكرتها؛ لغتها، وانتماءها، ودينها، وثقافتها، وعاداتها..
وأحلم بجيل من أبناء وأحفاد المهاجرين، يصنع للإسلام مكاناً في أميركا؛ الأرض الطيبة المتعطشة له، أعمل على إعداد المناهج التي ترمم ثقافتهم، وتحصنهم من الذوبان، وتعدهم دعاة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي الأحسن.
من سلسة التغيير للأستاذ محمد عدنان سالم