تخطي إلى المحتوى
القرآن وحرية التعبير القرآن وحرية التعبير > القرآن وحرية التعبير

القرآن وحرية التعبير

كاتب المقالة: 

لقد حلّق القرآن الكريم- بحصانته وقدسيته – فوق كل أنواع الرقابات الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والآبائية.. ولو أنه قُدم للجهات الرقابية على أنه نص بشري، لأتت أقلامها على كثير من نصوصه- حذفاً وتعديلاً-.

لن تحتمل الرقابة الدينية نصاً يقول: " إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله". ولا نصوصاً تتهم الأنبياء بالجنون والكذب والسحر والافتراء، وتصف الكتب التي جاؤوا بها بالإفك المبين، وأساطير الأولين، وأضغاث الأحلام، وتقول عن الذات الإلهية: اتخذ الرحمان ولداً، ويد الله مغلولة، والله فقير ونحن أغنياء.

ولن تحتمل الرقابة الأخلاقية قصة امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، وهمت به وهمَّ بها، واستبقا الباب وقدَّت قميصه من دبر.

كما لن تحتمل الرقابة السياسية وصف الحاكم بالطغيان والتأله والفساد، والرقابة الاجتماعية وصف الآباء بالضلالة والتقليد وفساد العقول، وتفوق الأبناء عليهم بالعلم والمعرفة والتقدم.

لا أجد في سجل التاريخ البشري نظاماً حرر عقل الإنسان من كل قيود الحجر، والتبعية، وأحادية الفكر، والهيمنة، والإكراه، والتفرد بالرأي، والتقليد، والماضوية، وتقديس الآباء، كالذي أجده في القرآن..

تكاد لا تجد سورة في القرآن تخلو من دعوة الإنسان إلى إعمال عقله، والتمرد على كل محاولات تقييده، وإرغامه على الانحباس في القماقم والقوالب الجاهزة؛ مسبقة الصنع.

لقد أهبطه الخالق إلى الأرض؛ خالي الذهن من كل مفردات المعرفة الشاملة التي أذاقه لذة الإحاطة بها في السماء، وزوده بعقل قادرٍ على المحاكمة والاسـتقراء واسـتيلاد الأفكار من رحم التجربة و الخطأ ، وتحداه- إن هو أعمل فكره- أن يجعله خليفته في الأرض، وأن يسخر له الكون كله ويطلق يده فيه، فقبل التحدي، مصراً- هذه المرة- على أن يذوق لذة تحصيل المعرفة بجهده؛ يراكمها لبنة فوق لبنة، يجتاز لها عصور البدايات المضنية حتى يبلغ بها عصر المعرفة الراهن؛ المنفتح على آفاق بعيدة بلا حدود..

وفي عصر المعرفة، وما يحفل به من وسائل الاتصال المتطورة.. يستعيد الفكر الإنساني حريته التي فطره الله عليها، وتنطلق طاقاته الإبداعية من إسارها، فلا يبقى للرقابة معنى ولا جدوى. ويتحقق وعـد الله: )سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( [فصلت 41/53].

1-حرية التعبير من جانب واحد؛ منهج الأنبياء

من قوانين التاريخ المستنبطة من تجارب الاجتماع البشري، أن حرية التعبير تبلغ مداها في مراحل نهوض الأمم، وتتقلص الحرية كلما تعبت أمةٌ من أعباء حضارتها، فأخلدت إلى الراحة، قانعةً بحصيلتها الفكرية، متقوقعة عليها، تحوم حولها.. تكررها وتعيد إنتاجها.. تألفها، تقدسها.. تقرأ عليها التعاويذ.. تحيطها بحرس شديد.. ترى فيها الحقيقة التي لا ريب فيها.. وترى كل خروج عليها مساساً بالمقدسات، وخروجاً عن المألوف..

يصف لنا القرآن – الذي اشتق اسمه من القراءة، واستهل بها رسالته ، مطلقاً من غار حراء صيحته المدوية ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ( [ العلق96/1]- مرحلة النهوض هذه بكل ما يفور به المجتمع من جدال، وما يحتدم فيه من نقاش، وما ينتج عن ذلك من صراع بين الشرائح الاجتماعية الغافية على أنغام تقاليدها وعاداتها، و بين طلائع التغيير والتجديد؛ تحاول إيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين.

وتتكرر- على مدى التاريخ الحضاري الإنساني- معركة القديم والجديد، والمستنكر والمألوف.. المعركة التي خاضها المصلحون كلهم وفي طليعتهم الأنبياء، والتي يصورها لنا القرآن الكريم في سورة إبراهيم [14] صورة شاملة (بانورامية):  )أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ(  [إبراهيم 14/9-14].

ثم يعود فيصورها لنا مفصلة في سورة الشعراء  [26] ليحكي لنا معاناة كل نبي مع قومه.

فهذا موسى يواجه طغيان فرعون واستبداده السياسي بكل صلابة وإصرار، فيتهمه فرعون بالجنون، وينذره )قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ( [ الشعراء 26/29].

ويصر موسى على رفض ألوهية فرعون، والإقرار بالألوهية لرب العالمين، فتعلو كلمة الحق )وَأَنْجَيْنا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنا الآخَرِينَ( [الشعراء 26/65-66].

وهذا إبراهيم يشتبك مع قومه في حوار طويل، منتقداً وثنيتهم؛ في صورة درامية رائعة، لا بد من عرضها كما وردت في سورة الشعراء، دون أي تعليق قد يشوه جلالها: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ  ( [ الشعراء 26/69-77].

وهذا نوح ينكر على قومه طبقيتهم وتمييزهم واستكبارهم )إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ  ( [ الشعراء 26/106-116].

وتتطاول عاد في البنيان، وتمعن في إنشاء المصانع، وإنتاج الأسلحة والذخائر، وتطمئن إلى قوتها العسكرية، متجاهلة كل القيم الأخلاقية وحقوق الإنسان، فينبري لها هود مرسلاً إليها يذكرها؛ وتتابع سورة الشعراء سرد قصة صراعه معها ) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ إِنْ هَذا إِلاّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ( [الشعراء 26/128-138].

وتكب ثمود على مزارعها وعمرانها، وينسيها إسرافها وترفها واجباتها في إنهاض المجتمع ورعاية حقوق المستضعفين، وينتشر فيها الفسـاد، فتسرد لنا سورة الشعراء قصة كفاح رسـولها صالح معها: )أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَـرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ( [ الشعراء 26/146-154].

وينتشر الفساد الأخلاقي والشذوذ الجن في قوم لوط، فيخرجون بالمتعة عن الفطرة )أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِين وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ  قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ  قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ( [ الشعراء 26/165-168].

ويختل الميزان في أصحاب الأيكة فيكيلون بمكيالين، فيناديهم شعيب ) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  ( [ الشعراء 26/181-191].  

وتأتي الرسالة الخاتمة واضعة تجارب الأمم السالفة كلها بين يدي الإنسانية لتتعظ بها، وتتجنب الوقوع في أخطائها.

لكن الإنسان ما يلبث أن يكرر أخطاءه، فها هي الحضارة الغربية تتردى في حضيض أخلاقي يشتمل على سوءات الأمم السالفة كلها، منذراً بتحولٍ تاريخي جديد، ينقل راية الحضارة الإنسانية إلى أيد أكثر نظافة يأتمنها عليها، مؤكداً أن عين التاريخ لا تزال يقظة تراقب عن كثب، وأن رقابتها قائمة على قانون المنفعة (القرآني)  الذي يقوم على حرية الإنسان في التعبير عن رأيه: )كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثالَ ( [ الرعد 13/17].

 

2- لا إكراه في الدين

لقد استخدم القرآن في هذه الجملة الإخبارية الجامعة؛ (لا) النافية للجنس ولم يستخدم (لا) الناهية في جملة إنشائية، ليؤكد لنا استحالة وقوع الإكراه؛ في الدين خاصة وفي الرأي عامة؛ إذ الرأي والدين شأن داخلي، يتكوَّن في ضمير الإنسان، لا يملك منه فكاكاً؛ إلا أن يتراءى له رأي آخر أوضح دليلاً، وأعم نفعاً، وأكثر إقناعاً، فيتركه ليخلي مكانه للرأي الجديد.

)لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [ البقرة 2/256]، وهل العروة الوثقى إلا ذلك الإيمان الذي يستقر في ضمير الإنسان فيوجه قناعاته ويرسم له منهج حياته، ويحدد له سلوكه؟!

وتتوالى آيات القرآن، محددة للرسـول مهمته: )ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ( [ المائدة5/99]. والبـلاغ يجـب أن يكون مبينـاً: )فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ النحل16/35]. )فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ النحل16/82] و )قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ النور24/54] و) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ العنكبوت 29/18] و )وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ يس 36/17] و) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلَى رَسُولِنا الْبَلاغُ الْمُبِينُ( [ التغابن 64/12].

وتظل مهمة الرسول محصورة بالبلاغ المبين وإقامة الحجة، ولا علاقة للرسول بردة الفعل عند المتلقي، الـذي قد يكون مكابراً أو جاحداً أو منافقاً  )فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنا الْحِسابُ( [ الرعد 13/40]. )وَما عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى( [ عبس 80/7]. )إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ( [ فاطر35/23] )لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ( [الغاشية88/22] ) وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ ( [ق50/45] ) وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( [الأنعام 6/107].

 وفي سؤال استنكاري موجه إلى الرسـول: يقول الله تعالى )أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( [ يونس 10/99] وسـؤال اسـتنكاري آخر يتوجه به نوح إلى قومه: )يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ( [هود 11/28].

وتأكيداً على اسـتحالة الإكراه في الدين يستثني الله تعالى من غضبه المكره على الكفر بعد الإيمان ) إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ( [النحل16/106]. وعلى الرغم من الرخصة الممنوحة للمؤمن كي ينطق بكلمة الكفر تحت وطأة التعذيب، فقد آثرت سمية الموت على أن تنطق بها، وتحمَّل بلال صنوف العذاب، وظل يشير بأصبعه (أحد، أحد) عندما جف ريقه وعجز لسانه عن النطق بكلمة التوحيد، ليعلِّم أحرار العالم دروساً في الثبات على المبدأ والصبر على الأذى، والإصرار على ممارسة حقه في حرية التعبير.

3-من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

)وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ( [الكهف 18/29].

يتكرر التنويه بحرية الإنسان في الرأي الذي يقتنع به وفي التعبير عنه في القرآن الكريم، في أكثر من مئتين من آياته؛ مؤكداً مسؤولية الإنسان عن قراره الذي يتخذه تجاه خالقه وحده، ولا سلطان لأحد عليه غيره. )وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ( [ الشمس 91/7-10].

ومسؤولية الإنسان أمام الله عن رأيه وعن سلوكه المبني عليه، إنما يكون الحساب عليها في الآخرة، ومرتكز هذه المسؤولية تزويد الله له بكل أدوات المعرفة التي يستطيع بها تمييز الحق من الباطل، والمصلحة من المفسدة، وتحذيره له من تنكُّب طريق الحق والعلم واتباع طريق الهوى والضلال: )وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّـمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُـؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كـانَ عَنْهُ مَسْـؤُولاً( [ الإسراء 17/36].

أما في الحياة الدنيا، فقد أطلق الخالق له الحرية كاملة لاعتناق الرأي الذي يختاره، وجعلها ميداناً لاختبار مدى إعماله لعقله، وقدرته على اقتحام العقبة، والسـمو فوق إغراءات الشيطان له بالإخلاد إلى الأرض: )الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ( [ الملك67/2].

ليس في القرآن آية تأمر بقتل المرتدِّ عن دينه، فقد ورد في القرآن بحـق المرتد )يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ( [ المائدة5/54].

)وَمَنْ يَرْتدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ( [البقرة2/217].

إنما ورد في الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من بدل دينه فاقتلوه)) [رواه البخاري والترمذي وأبو داود] وهو حديث يندرج في زمرة قوانين الطوارئ.. أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم تحذيراً لليهود الذين حاولوا فتنة المؤمنين عن دينهم، فيما ذكره القرآن عنهم )وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(  [آل عمران3/72].

فكف اليهود عن مكرهم، ولم يطبق قانون الطوارئ هذا على أحد منهم.

أما على صعيد التطبيق الفعلي، فإننا نقع على حادثة ذات مغزى كبير:

وقد ورد في الصحيحين قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأعرابي الذي استقاله بيعته على الإسلام فخرج: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها".

ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته أنه قتل مرتداً، بل إنه في صلح الحديبية وافق على " أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه".  

4-كفر الرأي وكفر العدوان

) قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [ التوبة 9/123].

وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [التوبة9/36].

)قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ( [ التوبة9/29].

كل ما ورد في القرآن عن قتال الكفار، إنما يراد به كفر العدوان وليس كفر الرأي، بدليل قوله تعالى: )لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلَى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( [ الممتحنة60/8-9].

وحتى كفر العدوان، قد وضع القرآن لقتاله ضوابط وقيوداً، تحدده بحسب مستوى العدوان، فبعد حالة التعايش والود المتبادل، ربما تطرأ حالة من التنافر والتخاصم تشوب العلاقة بين المسلم وغير المسلم، فهو هنا مأمور أن لا يبدأ بالعدوان )وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( [ البقرة2/190]. ) وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(  [المائدة 5/87].

فإن بدأ غير المسـلم بالعدوان فما على المسـلم إلا أن يرد العدوان بمثله ولا يتجـاوزه )فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [ البقرة 2/194].

فإذا ثاب الكافر إلى رشده وطلب السلم فعلى المسلم أن يستجيب لطلبه. حتى لو اشتم منه رائحة الخدعة، فإن عليه أن يقبل السلم مع الحذر )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ( [ الأنفال 8/61-62].

وفي مرتبة خامسة تأتي حالة التوافق على السلم وإبرام المعاهدات التي يكون على المسلم فيها الالتزام الكامل بما عاهد عليه )وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ( [ النحل16/91].

ثم تأتي في مرحلة سادسة من تطور العدوان حالة إنهاء المعاهدات ونقضها، فعلى المسلم أن يظل ملتزماً بمعاهداته ما دام الطرف الآخر ملتزماً بها.    

)إِلاّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( [ التوبة 9/4].

)فَما اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( [ التوبة 9/7].

ولا يجوز للمسـلم نقض معاهـدة حتى لو كان ذلك تلبية لطلب من إخـوان له في الديـن )وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( [ الأنفال8/72].

 

5-الكفر اختلاف في الرأي

الكفر في القرآن لا يعدو أن يكون اختلافاً في الرأي لا يفسد الود ما دام التعبير عنه مقتصراً على اللسان لا يتجاوزه إلى اليد.

فهو كفر متبادل: )قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ   ( [ الكافرون109/1-6].

وهو كفر لا يفسد المواطنة  والعيش المشترك، قامت على أساسه وثيقة المدينة بين المسلمين واليهود؛ أول وثيقة ترسي مبدأ حرية الاعتقاد في التاريخ؛ لم تستوعبها ثقافة اليهود الأحادية المستقرة في ضمائرهم، فسرعان ما تآمروا عليها، وانسلخوا منها.

وقامت عليه العهدة العمرية معترفة للنصارى بحقوقهم وكنائسـهم وصلبانهم وحارسة لها.. ما زالت هذه العهدة تشكل أساس المواطنة وروح العلاقة الوثيقة بين المسلمين والمسيحيين إلى اليوم، لم تستطع الحروب الصليبية الحاقدة، ولا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني اجتثاثها..

)لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ( [المائدة 5/82]. 

إنما تكمن الفتنة في تجاوز التعبير عن الرأي اللسانَ إلى اليد، ولا تتولى اليد التعبير عن الرأي إلا عندما يفقد اللسان حريته في التعبير. ولا تحقق الإنسانية تقدمها إلا في مناخ الحرية، ولا يتوالد الإرهاب ويفرخ إلا في أعشاش الإكراه وكمِّ الأفواه وغياب الحرية.

يكاد القرآن أن يكون أول من نبه إلى هذه الحقيقة: )قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ( [ آل عمران3/64].

وأرسى لهذه الحقيقة قواعدها، وزوَّدها بأدواتها؛ عبر اعترافه بالآخر وحقه في الاختلاف، وما يستتبعه ذلك من التعدد والحوار.

وأمر المسلمين في مكة بكف اليد مرسخاً قاعدة منع استخدام العنف في معارضة النظام السياسي الداخلي، واعتماد الكلمة وحدها في إدارة هذا الصراع. فالتزموا ذلك التزاماً صارماً لم يحيدوا عنه قيد أنملة.    

6-التعدد والاختلاف

لم يحفل كتاب سماوي ولا أرضي بالتأكيد على التنوع والتعدد والاختلاف؛ وسيلةً للنمو والتطور والارتقاء، مثلما حفل القرآن الكريم.

فالاختلاف في القرآن هدف من أهداف الخلق: )وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ( [ هود11/118-119].

والتدافع بين الناس وسيلة للنمو والإصلاح من دونه تفسد الحياة وتتفسخ: )وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ( [ البقرة2/251].

)وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( [الحج22/40].

واختـلاف الناس في الألسـن والألوان آية من آيات الله مثل خـلق السـماوات والأرض )وَمِنْ آيـاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعالِمِينَ( [ الروم 30/22].

والتنوع وسـيلة مـن وسـائل التعارف وتبادل الخبـرات بين الأمم ) يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( [ الحجرات49/13].

والوحدانية صفة اختص الله تعالى بها نفسه، وجعل الازدواج والتضاد سمة من سمات الخلق )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( [ الذاريات 51/49] و) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ومِمّا لا يَعْلَمُونَ  ( [ يس 36/36].

7- حرية للتعبير بلا حدود

فها هي النصوص القرآنية تضج بكل ما يذخر به المجتمع من آراء وأفكار، وما يثور فيه من جدل ونقاش، حول القيم الدينية ورسالات الأنبياء والحياة والموت ويوم القيامة؛ مما يصرح أو تشتمُّ منه رائحة الكفر والإنكار والتهجم حتى على الذات الإلهية.. نصوص يتلوها المسلم في صلاته، لو سمعها على لسان أحد من دون أن يفطن إلى أنها قرآن يتلى؛ لانخلع لها قلبه، ولو عرضت على الرقابة لانهالت عليها حذفاً وطمساً بقلمها الأحمر.. لعل هذه الصراحة في القرآن تكون تدريباً للعقل المسلم على قبول الآخر والحوار الهادئ الرصين معه بغية الوصول إلى الحقيقة.

لنستعرض معاً آياتٍ من القرآن تعرض لنا هذا الحراك الاجتماعي الذي تثيره دعوات الأنبياء: فهذا حوار عائلي ساخن بين ولد مستهتر ووالديه المشفقيْن )وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هَذا إِلاّ أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ( [الأحقاف46/17].

وهذه نماذج مما قيل في إنكار الآخرة ويوم القيامة:  )وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ( [السجدة32/10]. )وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ( [سبأ 34/35]. )وَقالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ( [الجاثية 45/24]. )يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ( [ النازعات79/10-12].

ونماذج أخرى مما قيل في تكذيب الأنبياء وفي شتمهم: )وَقالُوا يا أَيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ( [ الحجر15/6].

 )قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ( [ الشعراء 26/111]. )قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ( [الشعراء 26/136]  )فَلَمّا جـاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هَذا إِلاّ سِـحـْرٌ مُفْتَرَىً ( [ القصص 28/36]. ) فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ( [ غافر 40/24]. )إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ( [ المؤمنون 23/38]. )قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ( [الزخرف 43/24] )إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ( [ الأنعام6/91]. )أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ( [ القمر 54/25].

لنتساءل: هل اختلف خطاب الكفر والإلحاد على مر الزمن؟، وهل سمعنا من ملحدي العصر شتماً للأنبياء وإنكاراً للقيامة والحساب واليوم الآخر أكثر مما أورده القرآن؟!

ولنفترض أن صحيفة نشرت بعض هذه النصوص في حق أحد الأنبياء على لسان إنسان ما غربي أو شرقي، ما الذي كان سيحدث؟! وهل قال سلمان رشدي في آياته الشيطانية قدحاً في الأنبياء أقذع من هذا الذي ذكره القرآن؟

لكن القرآن يدلنا على طريقة أخرى للتعامل مع مثل هذه الحالات أكثر جدوى وأعمق أثراً من إهدار دم سلمان رشدي.. إنها الحوار!!

 

 

8-القرآن والحوار

لم ترد مادة الحوار في القرآن إلا في آيتين في سورة الكهف )فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً( [ الكهف28/34]، )قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً( [ الكهف28/37].

وآية في سورة المجادلة )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ( [المجادلة 58/1].

لكن المتدبر للقرآن يجد الحوار يستغرق معظم آياته؛ تكاد لا تجد سورة من سوره تخلو من الحوار:

فهو تارة حوار الإنسان مع الإنسان: بدءاً من الحوار بين ابني آدم )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ( [ المائدة5/27-30].

وتارة حوار بين الأنبياء وأقوامهم )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( [ البقرة 2/258].

وتارة حوار بين الله وأنبيائه:) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ( [ المائدة 5/109].

وتارة حوار بين الله وإبليس )قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (  [ الأعراف 7/12-18].

وتارة بين الله وملائكته: )وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( [ البقرة 2/30-32]  

ويرسم لنا القرآن صور الحوار متدرجاً به:

 من التخافت: )فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّها الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ  ([ القلم68/23-24].

إلى النجوى :  )فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى( [طه20/62].

إلى الإسرار: )وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ( [التحريم66/3].

إلى المحاجّة: )وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ( [ الأنعام 6/80].

إلـى الجـدال: )قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ( [ هود11/32].

إلى التخاصم يعرضه لنا في صورة مؤثرة يستدعيها من أحداث الآخرة )قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النّارِ وَقالُوا ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ( [ص38/60-64].

إلى الإعراض والقطيعة: )فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً( [ النساء 4/140].

ويبين لنا القرآن ضرورة الحوار )لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً( [ النساء4/165].

ثم يضع لنا قواعده وآدابه:

)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [ النحل16/125].

)وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( [الأنعام 6/108].

وبأمرنا أن ندخل في الحوار من دون مسلمات مسبقة: )وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى هُدَىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ( [ سبأ 34/24-25].

وأن نحتكم للبراهين:

)قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ( [ البقرة2/111].

)قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنا أَوَّلُ الْعابِدِينَ( [ الزخرف43/81].

)وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ( [ المؤمنون23/117].

 

 

وبعد

فماذا كان نصيب التوجيه القرآني من التطبيق في حياتنا؟! واقعنا الراهن- سواءً على الصعيد الداخلي (البيني) أو على الصعيد الخارجي- يشير إلى تطبيق عملي متناقضٍ ومتنافٍ تماماً مع كل النصوص القرآنية المنوه بها، وهو [المنوه به] غيض من فيض. فالأحادية والانقسـام والتشرذم  والاختصام والاقتتال واحتكار الحقائق وفرض الرأي الواحد بالقوة- على الصعيد الفكري- هو السائد في علاقاتنا.

وكل ذلك وضع طبيعي يمكن تفهمه تماماً إذا ربطناه بالمرحلة الحضارية التي نجتازها، وهي مرحلة الخروج من دورة الحضارة.

فالكلمة لا تعيش وتؤتي ثمارها إلا في مناخ الحرية، ومناخ الحرية لا يتوفر إلا في مرحلة النهوض من السياق الحضاري، وتفقد الكلمة كل فاعليتها ومغزاها عندما تفقد حريتها؛ فتنقلب معانيها إلى أضدادها. فإن هي فقدت حريتها في أمة آذنت شمس حضارتها بالأفول، وفي هذا السياق الحضاري نستطيع أن نتفهم صيحة عمر بن الخطاب إبان صعودنا الحضاري: (( متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)).   

المصدر: 
دار الفكر