ملخص ما سبق
رأينا في الأجزاء الأربعة الأولى من (مَوكب النُّور) كيف اكتشف سعد وهند إسلام ذويهما قُبَيل الهجرة، وكيف دخل الإسلام حياتهما. ثم رأيناهما يهاجران طفلين يحومان حول العاشرة من عمريهما، فيكابدان مشاقّ الطريق الطويلة، ويعانيان شظف العيش، ومتاعب الانخراط في مجتمع جديد. حيث يعيش المهاجرون والأنصار جنباً إلى جنب مع القبائل اليهودية من بني قينُقاع وبني النَّضِير وبني قُرَيظة، وطائفةٍ دُعيت بالمنافقين ممن يظهرون الإسلام ويتعاونون وأعداءه. ثم رأيناهما يشهدان أوّل وأهمّ معركة في الإسلام، حيث كان نصر بَدر الذي ثبَّت كيان الدولة الإسلامية الأولى.
وفي هذا الجزء من روايتنا، سوف نرى كيف يستعدّ المسلمون لمواجهة قُرَيش من جديد في معركة أُحُد، وكيف يتصدّون لمؤامرات يهودَ والمنافقين التي تتعاظم ويزداد خطرها. أمّا أصدقاؤنا، أولئك الفِتية الذين لم يعودوا ينتسبون إلى عالم الأطفال، ولم يقبلهم الكبار في عالمهم بعد، فسوف نرى كيف يعايشون هذه الأحداث؟
كيف يفكرون، وبم يحلمون؟
كيف يواصلون الناس من حولهم؟
وكيف تتطور علاقاتهم فيما بينهم؟
وفي هذا الجزء أيضاً، سوف نرى مُصعَباً وعُتبة وقد أصبحا صبيَّين واعيين، وبدأا خطواتهما الأولى على دروب الحياة. وفيه سنستقبل جيلاً جديداً من الأصدقاء، حيث يولد أخ لسعد وهند، وآخر لِمُصعَب وعُتبة.
سيكبَر الجميع... سيغدو أطفال اليوم أولاداً، وأولاده فِتية... أما الفِتية فسوف يتقدّمون إلى عالم الشباب، ليصنعوا الحياة كما أرادها الله هدًى راشداً، وعملاً طيباً ينفع الناس.
فاطمة شنون
1
مخاوِف مُصعَب وعُتبة
انتهى التّدريب اليوميّ، وراح مُصعَب وعُتبة يُهروِلان بينَ الفِتية العائدينَ إلى بُيوتهم وهم يرمُقون شمس الضّحى الباهتة بإلحاح، كأنّهم يستجْدونها الدّفء، بعدَ هذا الصّباح الرّبِيعيّ البارد.
وفي أوّل الطّريق، كان سعد يدفعهما أمامَه، واضعاً كلتا يديه على كَتِفَيهما، وهو يسير في مجموعة من رفاقه. ولكنّ السّيرَ على هذا النّحو بدا مرهِقاً، فكثيراً ما كانت أعقاب الصّغيرَين تتعرّض لكَدَمات نِعال الفِتية المندفعينَ في السّير المنشغلينَ بالحديث، لذلك انحنى سعد عليهما هامِساً: تقدّمانا، أو تأخّرا عنّا قليلاً...
وعندما اصطدم بنظرتَيهما غيرِ المرتاحتَين أضاف: لئلاّ تصطكّ أقدامنا... وقد تتعثّران.
وهكذا استقرّ الأمر للصّغيرَين مع أترابهما في مؤخِّرة الرّكب، ثم راحت كَوكَبة الأطفال تتمايز وتنفصل شيئاً فشيئاً عن مجموعة الفِتيان الجادّينَ في السّير.
مدّ مُصعَب يده إلى عنُق عُتبةَ بشكل مفاجئ، فجفَل عُتبة قليلاً، وقال باسماً: يدك باردة.
ـ كلّي بارد.
ـ لأنّك لم ترتَدِ قميصك، هذا جزاء من يُخالف أمّه.
وَكَزه مُصعَب برِفق: لم أكنْ بَردانَ ...
ـ وأنا لم أكنْ بَردانَ...
ـ لم تكنْ بَردانَ، ولَبستَه!؟
ـ ألم تقُلْ أمّي ستبرُدانِ في العَراء؟
ـ أنا لم أبرُدْ ... الآنَ فقط برَدت.
ـ لا تكذِبْ... رأيتك في الحَلْبة منكمِشاً كالقِطّ المبلَّل.
ـ أُفٍّ... أجل... لقد برَدت... اصمُتِ الآنَ.
سارا صامتَين يرقُبان الفِتية يسيرون أمامَهم، كانوا كباراً أَشِدّاءَ بتلك السّيوف على عواتقهم. وكان ممتِعاً حقّاً أن يُفكِّرَ الصّغيران كما يلي: بعدَ عِدّة سنوات سنكون في مكانهم... سنكون مثلَهم... وقال مُصعَب فَجأةً كأنّه يُواصِل التّفكير: لكنّ علينا الآنَ فقط أن نتفرّجَ ونحفظَ.
وانبعث عُتبة: ذكّرتَني... أنا لم أَحفظِ اللَّيلةَ الفائتةَ جيّداً...
ـ وأنا كذلك.
ـ تعالَ نحفظْ.
ـ الآنَ!!
ـ الآنَ... أنا أَبدأ.
أُسقِط في يد مُصعَب، وقال بفُتور: ابدأْ.
ـ أَعوذ بالله منَ الشَّيطان الرَّجيم، بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم: {والضُّحَى، واللَّيلِ إِذا سَجَى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما...}
ـ {قَلَى}.
ـ {قَلَى، ولَلآخِرةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى، ولَسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فتَرضَى، ألَم يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى، ووَجَدَكَ ضالاًّ فهَدَى، ووَجَدَكَ عائلاً فأغنَى، فأَمّا اليَتِيمَ فلا تَقهَرْ، وأمّا السّائلَ فلا تَنهَرْ، وأمّا بِنِعْمةِ رَبِّكَ فحَدِّثْ}.
يلتفت إلى مُصعَب: الآنَ دورُك.
ـ {والضُّحَى، واللَّيلِ إذا سَجَى، ما} ... ما ... ما؟
ـ {ما وَدَّعَكَ}.
ـ {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى... و...}؟
ـ {ولَلآخِرةُ}.
ـ {وما قَلَى، ولَلآخِرةُ}... ولَلآخِرةُ... لا تقلْ شيئاً ... انتظرْ، سأَتذكّرها... ولَلآخِرةُ ولَلآخِرةُ ولَلآخِرةُ...
ونظر إلى أخيه مُتسائلاً...
تأفّف عُتبة: {وَلَلآخِرةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}.
ـ... {مِنَ الأُولَى}!... لا أَعرِف ما تبقّى.
ـ أنت لا تعرِف شيئاً.
ـ... أنت أيضاً أَخطأت.
ـ خطأ واحد.
ـ لا يجوز... أمّي لا تسمح.
ـ تسمح بخطأ واحد... ثم إنّني سأُكرِّر حتى أحفظَ تماماً.
ـ وأنا! أَنال عِقاباً... كما في كلّ مرّة.
ـ كرِّرْ أنت أيضاً.
ـ أنا متعَب وسأَنام فَورَ وُصولنا.
ـ والطّعام؟
تثاءب مُصعَب ...: أنا متعَب ونَعسان.
ـ ستُمسك بك أمّي فَورَ استيقاظك، وتقول: اتلُ عليّ هيّا...
ـ سأحفظ فيما بعدُ.
صمت عُتبة باكتئاب، ثم تمتَم: سيكون المساء قد حَلّ.
نظر إليه مُصعَب واجِماً، ولم يُعقّبْ.
تقارب الأَخوان بصَمت منكمشَين، وخفض عُتبة عينَيه إلى مَواطئ قدمَيه، بينما رفع مُصعَب رأسه يرمُق الشّمس: لماذا تغيب هذه؟!
نظر عُتْبة إلى قُرص الشّمس البارد شَزْراً: هكذا ... تذهب!
ـ لا تذهبُ... الظّلام يأتي.
ـ بل هي تذهب، تمشي وتمشي وتمشي طَوالَ النّهار، ثم تسقط.
ـ تسقط في حُفرة كبيرة؟
ـ قلْ وادٍ عميق ، وتظلّ طَوالَ اللّيل تتسلّق الـمُنحدَر لتعودَ إلى السّماء من جديد.
ـ وفي كلّ يوم تسقط! ألا تستطيع تجنُّب ذلك الوادي؟!
ـ هل تظنّها تسقط كلَّ يوم في الوادي نفسِه؟ ... هناك أَودية كثيرة.
ـ لا أَوديةَ كثيرةً كما تتصوّر.
ـ بل هناك الكثير منَ الأَودية... ليس هُنا، ولكنْ في البعيد، حيث تسقط الشّمس.
ـ لو أنّها لا تسقط... من يُريد الظّلام!
ـ ولكن لابُدَّ منَ النّوم...
ـ الكبار يُحبّون النّوم...
وأَضاف متبرِّماً: ويُصرّون على أن ننامَ!
ـ لئلاّ يُخيفَنا الظّلام...
ـ لكنّ أمَّنا تُردِّد دائماً: لا داعيَ للخوف!
ـ فلماذا إذاً تُصِرّ على أن ننامَ؟!
ـ أتمنّى أن أكبَرَ بسُرعة ... الكبار لا يخافون الظّلام.
ـ بل يخافونه... لماذا يُوقِدون السُّرُج إذاً؟!
ـ لكي يرَوا.
ـ بل لئلاّ يدخلَ اليَهود.
ـ وهل يُمكنهمُ الدّخولُ إذا كانتِ الأبواب مُوصَدةً؟!
ـ يُمكنهم ... يَتسوَّرون الجُدرانَ، ويهبِطون إلى الفِناء بصَمت... نحن لا نراهم، ولو كنّا يقِظينَ، لأنّهم سُودٌ مثلُ الظّلام.
قال مُصعَب شارداً يُوافقه:... أمّا في النّهار فنراهم.
ـ أجل... في اللّيل يتحرّكون كيفما شاؤوا... يَدخلون، يملَؤون الفِناء، يقِفون في الزّوايا الشّديدة الظُّلمة، وهم يُخفون مُداهم تحتَ ثيابهم.
ـ وإذا ملأْنا الفِناءَ مصابيحَ؟
ـ ومِن أينَ نأتي بتلك المصابيحِ كلِّها؟! لا بُدَّ أن يبقى هناكَ ظلام يستترون فيه.
ـ ولكن لم يُطعَنْ أحد وهو نائم، كلّنا نستيقظ صباحاً سالمينَ.
تردّد عُتبة قليلاً ثم قال: إنّهم جُبَناء، لا يجرُؤون على طعننا... يُخِيفوننا فحَسبُ. ثم... مَن يدري؟ قد يطعنون فَجأةً.
ـ كلّما قلت لأمّي أَغلقي الباب جيّداً لئلاّ يدخلَ يهودُ ضحكَت، ثم قالت: سأَفعل، سأَفعل... ولكنّها لا تفعل.
ـ لأنّها تعرِف أنْ لا فائدةَ من ذلك... ألم أَقُلْ لك إنّهم يتسوَّرون...
ـ هِند أيضاً تخاف يهودَ... أَسمعُها تتحدّث إلى أمّي.
ـ حقاً؟! فلماذا سخِرت منّي عندما خِفت الخُروجَ وحدي ليلاً؟... قالت: تذهب إلى حَلْبة التّدريب وتخاف الظّلامَ!
ـ قلْ لها: إنّك تخاف يهودَ، وليس الظّلامَ.
ـ ستقول إنّهم جُبَناءُ لا يُخيفون.
ـ قلْ لها: أنتِ تخافينهم.
قال عُتبة ضجِراً: لن أقولَ لها شيئاً.
وخيّم صمْت يائس على الصّغيرَين، وراحا يسيران مستسلمَين إلى واقع غير مُريح... سيحُلّ الظّلام وإنْ عاجلاً وإنْ آجلاً، وسيعتصر الخوف قلبَيهما طَوالَ ساعات المساء، على الرَّغم من هذا الحديث الطّويل.
على هذه الحال رآهما سعد عندما التفت يتفقّدهما، فتوقّف يعترض طَريقهما دونَ أن يلتفتا إليه، وفاجأهما: هل تعبتما؟
رفعا إليه عُيوناً بائسةً، وفَجأةً قال مُصعَب بثورة مكتومة، لَم تَخْفَ على سعد: وأنتم... متى تُحارِبون؟
ابتسم سعد: عندما نستكمِل التّدريبَ.
ـ بعدَ مائة عام؟؟
ـ بل قريباً إن شاء الله.
انبرى عُتبة: ستُحارِبون يهودَ؟
ـ وكلَّ مَن يعتدي علينا.
قال بحِدّة: أَقول يهودَ!
ـ أجل... وأَضاف باسماً وهو يدفع بالتّوءمَين أمامَه مترفّقاً:... ولن يكونَ ذلك بعيداً.
ـ وستغلِبونهم؟
ـ إن شاء الله...
تدخّل مُصعَب وقد أَعْدَته حماسةُ و ثِقةُ سعد: ألَم نغلِبْ قُرَيشاً وهم أَقوى!
قال عُتبة بقلق موجِّهاً حديثه إلى سعد: لكنّ قُرَيشاً لا تتخفّى في الظّلام.
قال سعدٌ محاوِلاً تبديدَ نَبرة الخوف في صوت عُتبةََ: حتّى لو تخَفَّوا في السَّحاب أو في بطن الأرض... فلن نسمحَ لهم بالإساءة إلينا دونَ أن ينالوا جزاءهم.
لَفَـت الحديث انتباه عبد الله، فتدخّل: ألا ترَيان كيف يختفي بنو قَينُقاع في جُحورهم كالفِئران المذعورة؟!
أكملَ سعدٌ: ألا ترَيان أنّهم في رُعبٍ قاتلٍ، منذ نقضوا عهدهم لرسول الله؟!
وازدَرَد كلٌّ منَ التّوءمَين لُعابه بصَمت... كان ثَمّةَ شعور مُقلِق، لكنّه ليس واضحَ الـمَعالِم.
أمّا مُصعَب فقد عاد إلى مشكلته التي تتربّص به. فهو الآنَ بينَ نارَين: حِفظِ ما عليه من آيات، أوِ الحبسِ الانفراديّ. وهو، وإن كان يَتِمُّ في النّهار، يحملُ إلى نفسه مخاوفَ لا يُطيقها. ووازن بسُرعة بينَ مجموعة خسائره: عناءِ الحِفظ... الحِرمانِ منَ الطّعام ... الحبسِ الانفراديّ، فوجد الحِفظَ أَخفَّها. فمال على عُتبةَ، وقال مُتضرّعاً: تَعالَ نحفظْ.
وانتبه عُتبةُ، وكأنّما سَرّه أن يجدَ لنفسه من لُجّة أفكاره الـمُقلقة مخرَجاً: تعالَ.
.........
.........
.........
بالكلمة الطيبة، واللغة الرفيعة، والأسلوب الأنيق، والوعي السليم لروح الرسالة الإسلامية، والرغبة الصادقة في التوجيه والإمتاع والتوعية، نتابع رواية (موكب النور) مسيرة الدعوة الإسلامية المباركة، من خلال شخصيات حية نابضة بالإيمان.
إنها تتجه إلى الجيل اليافع المتعطش إلى المعرفة والقدوة والمتعة البنّاءة، فتقدم له الكثير مما يدور في خَلَده، ويلهب أشواقه، ويشكل أحلام يقظته من حماسة وتضحية وإقدام، وتصور له ألوان الجهاد الروحي والمادي، والاستجابة العفوية للقيم الإنسانية، تزوده بالأداء اللغوي الممتع، وتعرفه الكثير من المواقف البطولية والإنسانية في تاريخه بأمانة علمية، اعتماداً على الأكثر ثقة من المصادر.
إنها رواية (موكب النور) بأجزائها المتتابعة - إن شاء الله - تجسد الإيمان بما لأدب الطفل من تأثير في صنع الإنسان، انطلاقاً من سنة القرآن العظيم من إعزاز للكلمة، وتقدير للبيان، حين جعل ((اقرأ)) فاتحة خطابه للبشرية، فخلد بذلك أثر الكلمة في توجيه الروح والعقل والحياة.
الدكتور فخر الدين قباوة
يتناول معركة أحد بما فيها مخاوف مصعب وعتبة ومواجهة قريش والتصدي لمؤامرات اليهود والمنافقين ومعايشة الفتيان للإحداث وتفكيرهم وأحلامهم وتطور علاقاتهم فيما بينهم وهمومهم ومتعهم ومخاوفهم وفهم وأحداث المعركة ونتائجها.