بين يدي هذا الكتاب
بحثت، فلم أعلم أن في الكتّاب أو الباحثين والمؤلفين من ألّف شيئاً في الحب، كما نقرؤه في كتاب الله.
ونظرت، فوجدت أن الجميع إنما كتبوا في العقائد التي يتضمنها القرآن أو في شرائعه وأحكامه، أو في بلاغته وإعجازه وبيانه، أو في قصصه وأخباره.
ثم استعرضت في ذهني الندوات والمؤتمرات التي حضرتها أو التي سمعت أو قرأت عنها، فلم أعثر على ندوة أو مؤتمر عقد في صقع ما، للبحث في الحب، كما هو في القرآن[(1)].
هذا، وحديث الحب ملء الأفواه، وديدن الكتّاب والأدباء، ومصدر الإلهام للشعراء، وأنيس المجالس والأسمار، ورابطة ما بين الفلاسفة والعلماء.
والحب له دوره في الحياة والمجتمعات، وله سلطانه على الأُسَرِ والبيوتات. وله تاريخه الذي لا يبلى، وأيامه التي لا تنسى، ولا تزال العقول تعي وتذكر ضحاياه الكثيرة على مرّ العصور، كم أحيا من موات النفوس، وكم أمات من أرباب القلوب.
الحب الذي هذا شأنه، له وجود كبير في كتاب الله عز وجل. وإنك لتستبين فيه الحالات التي يكون فيها الحب دواء لا بديل له ولا غنى عنه، والحالات التي يكون فيها داء ينبغي الفرار منه.
والقرآن بمقدار ما يستنهض العقول للفكر، يستحث القلوب للحب، وينبه إلى أن إدراك العقول للحق، لا يغني عن توجه القلوب بالحب إليه. ويحذر من أن تتوجه الأفئدة بالحب إلى ما، أَوْ مَنْ ليس أهلاً له.
فكيف يسوغ الإعراض عن هذا الذي يقرره القرآن وينبه إليه؟
ولقد تأملت في سبب إعراض الكاتبين والباحثين عما يقوله القرآن في الحب، فلم أعثر إلا على سبب واحد، هو أن القرآن يوجه القلوب إلى حب ما لا يستهوي النفوس حبه، ويحذرها من حب ما يصعب على النفوس الإعراض عنه والتحرر منه. فكان في التلاقي على هذا الذي يقرره القرآن ويدعو إليه، أو في العكوف على بيانه والتأليف فيه، ما يصعب استنهاض النفوس إلى العمل بمقتضاه. فيقع أكثر الكتاب والباحثين من جراء ذلك في ازدواج وتناقض بين الحديث عما يقرره القرآن ويدعو إليه، وفعل ما تدعو إليه النفوس وتقضي به.
أما دراسة ما يقرره القرآن من أهمية استعمال العقل في التفريق بين الحق والباطل، وفي وضع المناهج والموازين التي تعصم عن الوقوع في الخطأ، وتيسر السبيل إلى معرفة الصواب، فليس في ذلك ما يعوق النفس عن نيل مبتغياتها والتمتع بشهواتها، لأن العقل كان ولا يزال دالاً ولم يكن مجبراً ولا ملجئاً. فليقرر العقل ما يشاء، وليدْعُ القرآن إلى تحكيمه والاهتداء به، فإن العقل لا يتجاوز، في كل الأحوال، حدّ الإشارة أو البيان، أما النفوس والأهواء، فقد كانت ولا تزال هي المتحكمة بأزمّة السلوك وهي التي تقود أصحابها في المراتع التي تشاء.
لذا، فإنك كثيراً ما تجد لقاءات يجتمع المتداعون فيها على دراسة كثير من القضايا الفكرية والقوانين والأبحاث العلمية، ثم إنهم يتفرقون كما كانوا قبل أن يجتمعوا، لا يغير أي منهم من سلوكه شيئاً. أما البحوث التي ألقيت والقرارات التي تم الاتفاق عليها، فهي مجرد غذاء يقدَّم إلى العقل الذي شأنه البحث عن الحقائق. وللسلوك سلطانه الآخر، ودوافعه التي تتسامى في قدراتها على العقل.
فهذا ما حملني على كتابة فصول عن حديث القرآن عن الحب: حديث القرآن عن حب الله للإنسان، وحديثه عن حب الإنسان لله، وحديثه عن حب الإنسان لأخيه الإنسان، ثم عن دور الحب في حياة الإنسان، عندما يكون منضبطاً بنهج القرآن، وعندما يكون شارداً عن ضوابطه.
فإن كان هذا باكورة بحث في هذا الموضوع، فأسأل الله أن يجعل منه إتماماً لنقص، ودفعاً إلى خير. وإن كان ثمة من سبقني إلى الكتابة فيه على النهج السديد، فأسأل الله تعالى أن يجعل منه دعماً للحق الذي سبق بيانه، وتأكيداً للواجب السلوكي الذي تمليه علينا سلامة هذا الذي بينته وانتهيت إليه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
محمد سعيد رمضان البوطي
كتاب يفصّل في موضوع الحب الذي يتناوله القرآن الكريم، ويتحدث عن آثاره في حياة الإنسان.
قسم المؤلف كتابه إلى قسمين كما جاء في العنوان؛ القسم الأول ((الحب في القرآن))، وضمّنه ثلاثة بحوث؛ الأول ((محبة الله للإنسان))، قدّم له بمقدمة، وعرّف فيه بالحب، وتحدث عن مصير محبة الله لجنس الإنسان. والثاني ((محبة الإنسان لله)) وأشار فيه إلى حديث القرآن عن الحب القديم من الإنسان لله، وعن الحب الكسبي من الإنسان لله كذلك. وتوقف عند هذا النوع من الحب، وعند السبل المؤدية إليه والثمرة التي يحققها المرء في حبه لربه الذي عدّه المؤلف غاية وليس وسيلة، وأنه ليس من مستلزماته عدم الوقوع في المعاصي. والثالث ((محبة الإنسان للإنسان)) وبحث المؤلف فيه عن وجه التنسيق بين ما قضى الله به من حب الأغيار، وما دعا إليه من الترفع عن حبهم، ورأى أن حب الإنسان لأخيه الإنسان ثمرة لحب الله تعالى.
أما القسم الثاني من الكتاب ((دور الحب في حياة الإنسان)) فقد تناول فيه ثنائية تركيب الإنسان من الروح والجسد، وأثر ذلك في عواطفه، كما بحث في أثر كلٍّ من الحافز العقلي والعاطفي في حياة الإنسان، وذكر أن العقل مصدر الإيمان، وأن الحب مصدر الالتزام. وتحدث عن ضرر الاعتماد على العقل وحده، وعلى الحب وحده. وختم هذا القسم بالحديث عن دور الحب في أعمال الدعاة الذين يعرّفون بالإسلام، وأثر من تحلى بالحب الصادق منهم في نجاحه وقيامه بمهامه خير قيام.
ثم ختم المؤلف كتابه بكلمات عذبة عن حب الله.